21 ديسمبر 2018
من ميدان التحرير إلى الخرطوم
أحمد عثمان (لبنان)
مرَّت ثماني سنوات على انطلاقة الثورات العربية. وعلى الرغم من أن البداية انطلقت من تونس، ومن سيدي بوزيد بالتحديد، إلا أن ثورة مصر، وفي ميدان التحرير خصوصاً، كانت أكثر الانتفاضات أو الثورات تأثيراً، سواء في شعاراتها، أو في شكل تفجرها ومواجهاتها لأدوات النظام القمعية ولقادته. وهذا ما جعل المتظاهرين يرددون ويرفعون شعارات ميدان التحرير وهتافاته في مختلف البلدان العربية، وكذلك حول العالم، وبالعربية أيضاً، من نيويورك، إلى مدريد، إلى مدن كثيرة أخرى.
اليوم، استقبل المصريون والعرب الذكرى الثامنة لثورة مصر بالتباسٍ كثير، وتضارب الرؤى. فبعد المآلات القاسية للثورات العربية، وبعد عودة النظام القديم إلى مصر بصورة أكثر كاريكاتورية وقبحاً في ديكتاتوريته وقمعه، تتوزع الآراء المعلنة للكتاب والمدونين المصريين بين اتجاهات بعضها بعيد كل البعد عن الأسباب الحقيقية لثورة 25 يناير وعن التطلعات الحقيقية للملايين التي فجرتها وأخرجتها من عميق وجدانها تعبيراً عن فداحة مأساتها. فنرى من يلقي اللوم على ثوار يناير في ما آلت اليه أوضاع مصر، ونرى من يجلد نفسه، ومن يلطم أسفاً على ما آلت اليه الأوضاع، ومن يفقد الأمل بالشعب وقواه، ومن يحاول تبرئة النفس من كل ما جرى.
لو تفحصنا الواقع جيداً، سنرى أن سيطرة نظام عبدالفتاح السيسي على وسائل الإعلام المصرية بشكل كامل يمنع تظهير المواقف التي تستلهم ثورة 25 يناير وتحفظ عظمتها وتحتفظ بجذوتها. وكلما ازداد منسوب الاستبداد، تزايد التضييق على الناس في عيشهم وفي صوتهم، فإن استرجاع روح 25 يناير سيكون أقدر على الفعل في إعادة إنتاج الحالة الثورية التي ترعب النظام والمستفيدين منه.
ذلك كله، وعلى الجانب الآخر من حدود مصر، في السودان الشقيق ترتفع الأصوات بهتافات ميدان التحرير! الشعب يريد إسقاط النظام! مدن السودان تنتفض ونظام عمر البشير يترنح. لم ترهب الشعب السوداني مآلات الانتفاضات والثورات العربية، لم يخشَ مصيراً قد يشبه مصير الشعب السوري الذي أراد له نظام بشار الأسد ونظامٌ عالمي بات خطراً على البشرية أن يكون عبرة لشعوب العالم في الخضوع. لذلك رأينا السودان ينتفض مباشرة بعد عودة عمر البشير من زيارة مشبوهة إلى دمشق للقاء بشار الأسد، في خطوة لم يسبقه إليها رئيس عربي منذ سنة 2011، أي منذ بداية الثورة السورية وارتكاب المجازر بحق الشعب السوري.
عاد عمر البشير من دمشق ليواجه ثورة حقيقية في بلاده. ما الذي يدفع الشعب السوداني، أو غيره من الشعوب، إلى الثورة، رغم مآلات الثورات العربية المحبِطة؟
ما آلت اليه الأوضاع في البلدان العربية التي شهدت ثورات حقيقية منذ سنة 2011 تدفع على الخوف، إذ باتت الثورة وكأنها مغامرة غير محسوبة العواقب، أو مقامرة بمصير البلاد. ومن يرى إلى أوضاع سورية، أو اليمن، أو ليبيا، ربما سيقدم الأمن والأمان على أي شيء آخر. لكن ليست هذه هي مقاربة الشعوب، ولا يمكن أن تكون، ففي ميزان الشعوب كفتان، الخوف من القمع، أي الموت على يد الجلاد، والموت جوعاً في كفة ثانية. وحين يتساوى الخوف من الموت على يد الجلاد مع الخوف من الموت جوعاً، سيقول الهاتف في أذن الشعب: "كلها موتة"، وسينتفض الشعب ولن يتردد في مواجهة أدوات القمع مهما كانت.
إذاً، الشعوب ثارت، والشعوب سوف تثور لأنها في لحظة معينة لن تكون قادرة على الاستمرار في العيش في ظل الضغوط الهائلة التي تتراكم على كواهلها، بسبب طبيعة النظام العالمي المسيطر، وسياسات الأنظمة المحلية المحكومة بشروط هذه السيطرة.
لقد تحولت أنظمة الحكم، بغض النظر عن شكلها، وخصوصاً في بلادنا العربية، ومثيلاتها، إلى أنظمةٍ مافيوية تحكمها عصابات عائلية، أو عسكرية، أو طائفية، تنهب المال العام، وتضع الدولة في حالة عجز دائم ومتزايد، فتلجأ إلى الاستدانة، ثم تنهب أموال الديون، لتعود لفرض الضرائب على المواطنين بأشكال مباشرة وغير مباشرة، من خلال رفع أسعار المواد الأساسية، كالغذاء والوقود. وحيث يتواصل العجز في ميزانية الدولة، ويتزايد، تلجأ إلى بيع القطاع العام، ومؤسسات الخدمات العامة، فيصبح على المواطن أن يدفع أثماناً مضاعفة ليحصل على الخدمات الساسية التي هي حق من حقوقه الطبيعية التي يشرع النظام في تسليعها.
ذلك كله والأجور تبقى على حالها والبطالة في تزايد، لأن مثل هذه الأنظمة التي تعتمد على الريوع والنهب المباشر لا تقيم وزناً لاقتصاد تشغيلي منتج من صناعة وزراعة، يلبي حاجات الناس إلى الأمن الغذائي والأمن السكني والأمن الطرقي، وإلى سائر الحقوق في الصحة والتعليم، وسواها.
ولأن هذه الأنظمة محكومة بسياسات البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، نراها تلجأ إلى ما تسمى اصلاحات اقتصادية بنيوية، فبدل أن تؤمن العمالة للشباب المقبل على الحياة، نجدها تسعى إلى ما يسمى ترشيق القطاع العام، وخفض أعداد الموظفين، من دون أن تؤمن لهم البديل الذي يمكنهم من الاستمرار.
واللافت أن بلدانا مثل السودان وفنزويلا والعراق، التي هي من أغنى البلاد بلدان بالثروات الطبيعية، تعيش شعوبها حالات إملاق غير مسبوقة، في حين تتمسّك القوى المسيطرة منذ عقود بمواقع سيطرتها. فإن كان فشلٌ في إدارة شؤون البلاد، فلماذا لا تترك الأمر لآخرين، ربما يتمكنون من تغيير أحوال الناس، وتحسين استثمار الثروات الهائلة بما يخدم حاجات تلك المجتمعات؟ ولكن الأمر ليس مسألة فشل، أو سوء إدارة، بل سياسات متعمدة تمارسها تلك القوى وتعمل على تأبيدها، سواء ادعت هذه القوى ليبرالية مفرطة، كما في العراق، أو اعتبرت نفسها إسلامية، كما في السودان، أو يسارية اشتراكية كما في فنزويلا.
في ظل اتساع دائرة الفقر والتهميش وتعمق الأزمات الاجتماعية، لن تجد الشعوب أمامها مفرّاً من الثورة. أما المآلات فهي مسؤولية القوى والنخب التي يقع على عواتقها ترشيد هذه الثورة وحمايتها من الاختراق. صحيح أن نظاماً إقليمياً ونظاماً عالمياً يتربصان بحراكات الشعوب، ويدفعان باتجاه إجهاضها ومنعها من تحقيق أي من أهدافها، إلا أن ثورات الشعوب المتدحرجة من بلد إلى آخر ستصل، في نهاية المطاف، إلى الخواتيم المبتغاة مهما عظمت التضحيات.
لو تفحصنا الواقع جيداً، سنرى أن سيطرة نظام عبدالفتاح السيسي على وسائل الإعلام المصرية بشكل كامل يمنع تظهير المواقف التي تستلهم ثورة 25 يناير وتحفظ عظمتها وتحتفظ بجذوتها. وكلما ازداد منسوب الاستبداد، تزايد التضييق على الناس في عيشهم وفي صوتهم، فإن استرجاع روح 25 يناير سيكون أقدر على الفعل في إعادة إنتاج الحالة الثورية التي ترعب النظام والمستفيدين منه.
ذلك كله، وعلى الجانب الآخر من حدود مصر، في السودان الشقيق ترتفع الأصوات بهتافات ميدان التحرير! الشعب يريد إسقاط النظام! مدن السودان تنتفض ونظام عمر البشير يترنح. لم ترهب الشعب السوداني مآلات الانتفاضات والثورات العربية، لم يخشَ مصيراً قد يشبه مصير الشعب السوري الذي أراد له نظام بشار الأسد ونظامٌ عالمي بات خطراً على البشرية أن يكون عبرة لشعوب العالم في الخضوع. لذلك رأينا السودان ينتفض مباشرة بعد عودة عمر البشير من زيارة مشبوهة إلى دمشق للقاء بشار الأسد، في خطوة لم يسبقه إليها رئيس عربي منذ سنة 2011، أي منذ بداية الثورة السورية وارتكاب المجازر بحق الشعب السوري.
عاد عمر البشير من دمشق ليواجه ثورة حقيقية في بلاده. ما الذي يدفع الشعب السوداني، أو غيره من الشعوب، إلى الثورة، رغم مآلات الثورات العربية المحبِطة؟
ما آلت اليه الأوضاع في البلدان العربية التي شهدت ثورات حقيقية منذ سنة 2011 تدفع على الخوف، إذ باتت الثورة وكأنها مغامرة غير محسوبة العواقب، أو مقامرة بمصير البلاد. ومن يرى إلى أوضاع سورية، أو اليمن، أو ليبيا، ربما سيقدم الأمن والأمان على أي شيء آخر. لكن ليست هذه هي مقاربة الشعوب، ولا يمكن أن تكون، ففي ميزان الشعوب كفتان، الخوف من القمع، أي الموت على يد الجلاد، والموت جوعاً في كفة ثانية. وحين يتساوى الخوف من الموت على يد الجلاد مع الخوف من الموت جوعاً، سيقول الهاتف في أذن الشعب: "كلها موتة"، وسينتفض الشعب ولن يتردد في مواجهة أدوات القمع مهما كانت.
إذاً، الشعوب ثارت، والشعوب سوف تثور لأنها في لحظة معينة لن تكون قادرة على الاستمرار في العيش في ظل الضغوط الهائلة التي تتراكم على كواهلها، بسبب طبيعة النظام العالمي المسيطر، وسياسات الأنظمة المحلية المحكومة بشروط هذه السيطرة.
لقد تحولت أنظمة الحكم، بغض النظر عن شكلها، وخصوصاً في بلادنا العربية، ومثيلاتها، إلى أنظمةٍ مافيوية تحكمها عصابات عائلية، أو عسكرية، أو طائفية، تنهب المال العام، وتضع الدولة في حالة عجز دائم ومتزايد، فتلجأ إلى الاستدانة، ثم تنهب أموال الديون، لتعود لفرض الضرائب على المواطنين بأشكال مباشرة وغير مباشرة، من خلال رفع أسعار المواد الأساسية، كالغذاء والوقود. وحيث يتواصل العجز في ميزانية الدولة، ويتزايد، تلجأ إلى بيع القطاع العام، ومؤسسات الخدمات العامة، فيصبح على المواطن أن يدفع أثماناً مضاعفة ليحصل على الخدمات الساسية التي هي حق من حقوقه الطبيعية التي يشرع النظام في تسليعها.
ذلك كله والأجور تبقى على حالها والبطالة في تزايد، لأن مثل هذه الأنظمة التي تعتمد على الريوع والنهب المباشر لا تقيم وزناً لاقتصاد تشغيلي منتج من صناعة وزراعة، يلبي حاجات الناس إلى الأمن الغذائي والأمن السكني والأمن الطرقي، وإلى سائر الحقوق في الصحة والتعليم، وسواها.
ولأن هذه الأنظمة محكومة بسياسات البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، نراها تلجأ إلى ما تسمى اصلاحات اقتصادية بنيوية، فبدل أن تؤمن العمالة للشباب المقبل على الحياة، نجدها تسعى إلى ما يسمى ترشيق القطاع العام، وخفض أعداد الموظفين، من دون أن تؤمن لهم البديل الذي يمكنهم من الاستمرار.
واللافت أن بلدانا مثل السودان وفنزويلا والعراق، التي هي من أغنى البلاد بلدان بالثروات الطبيعية، تعيش شعوبها حالات إملاق غير مسبوقة، في حين تتمسّك القوى المسيطرة منذ عقود بمواقع سيطرتها. فإن كان فشلٌ في إدارة شؤون البلاد، فلماذا لا تترك الأمر لآخرين، ربما يتمكنون من تغيير أحوال الناس، وتحسين استثمار الثروات الهائلة بما يخدم حاجات تلك المجتمعات؟ ولكن الأمر ليس مسألة فشل، أو سوء إدارة، بل سياسات متعمدة تمارسها تلك القوى وتعمل على تأبيدها، سواء ادعت هذه القوى ليبرالية مفرطة، كما في العراق، أو اعتبرت نفسها إسلامية، كما في السودان، أو يسارية اشتراكية كما في فنزويلا.
في ظل اتساع دائرة الفقر والتهميش وتعمق الأزمات الاجتماعية، لن تجد الشعوب أمامها مفرّاً من الثورة. أما المآلات فهي مسؤولية القوى والنخب التي يقع على عواتقها ترشيد هذه الثورة وحمايتها من الاختراق. صحيح أن نظاماً إقليمياً ونظاماً عالمياً يتربصان بحراكات الشعوب، ويدفعان باتجاه إجهاضها ومنعها من تحقيق أي من أهدافها، إلا أن ثورات الشعوب المتدحرجة من بلد إلى آخر ستصل، في نهاية المطاف، إلى الخواتيم المبتغاة مهما عظمت التضحيات.
مقالات أخرى
09 ديسمبر 2018
30 نوفمبر 2018
03 أكتوبر 2018