من ينفخ في الأذن المصرية؟
دان الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، في أعقاب اجتماع المجلس الوزاري لدول الجامعة، أخيراً، كل أشكال التدخلات العسكرية الأجنبية في ليبيا، وأوضح أن الخيار العسكري لن يحل الصراع ولن يحقق انتصارات لأي طرف. ولم يتوقف عند رسائل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، الموجهة إلى ليبيا وشعبها، واستعداد القاهرة لتسليح قبائل ليبية لمحاربة بقية الليبيين، ولم ير فيها خرقاً لقرارات الأمم المتحدة في حظر إرسال السلاح إلى هناك. وجامعة الدول العربية تتحرّك لعقد اجتماع استثنائي، بدعوة من مصر، لبحث "مخاطر وتهديدات السياسة التركية في ليبيا" وهذا حقها، لكن أحدا لم يسمع بعد أن دول الجامعة ستتحرّك لبحث التقارير المعلنة عن جرائم قوات اللواء المتقاعد المتمرّد، خليفة حفتر، في غرب ليبيا التي ارتكبها ضد المدنيين.
وقد أخذت كلمة السيسي بشأن ليبيا مكانها في وثائق الخارجية المصرية ومراكز البحث والتحليل لتفكيك رموزها، وخبايا تهديد ليبيا بالغزو تحت ذريعة الأمن القومي المصري الذي يبدأ من سرت والجفرة، حيث يتمركز مرتزقة "فاغنر" ضمانا لحقوق القاهرة، ثم إطلاق حملة تسليح لليبيين ليقتلوا ليبيين آخرين بعدما فشل حفتر في تحقيق هذه الرغبة. وما تقوله وتفعله القاهرة اليوم يتعارض مع ما كانت تقوله وتفعله قبل أشهر. وتعبر رسائل الرئيس المصري عن حجم الانسداد في سياسة مصر الليبية، وحالة التخبط التي تعيشها، بسبب التنقل من حضن إقليمي إلى آخر. فضلاً عن أن الشعب الفلسطيني كان ينتظر كلمة للسيسي من هذا النوع منذ سنوات، يحذّر فيها إسرائيل من الاقتراب من الخطوط الحمراء المصرية في القدس وغزة، قبل توجيه سهامه نحو أنقرة لإبعادها عن ليبيا، الخط الأحمر المصري.
لا رغبة مصرية أو تركية في دخول المواجهة العسكرية المباشرة التي يشجع عليها بعضهم
يبرز بعضهم أهمية التنسيق المصري الفرنسي اليوناني في ليبيا وشمال أفريقيا وشرق المتوسط محور اصطفاف إقليمي يعرقل التمدّد التركي في المنطقة. عاصمة تهدّد بالاجتياح، وأخرى تريد العودة إلى حلم خريطة تقاسم النفوذ في ليبيا لتربط الساحل الغربي في سرت بمدينة سبها، جسر الوصول الى العمق الأفريقي، وثالثة تريد منافسة أنقرة على خطط استخراج الطاقة ونقلها بين الشرق والغرب.
القاهرة غاضبة بسبب إفشال المواقف الأميركية والتركية والبريطانية والإيطالية والألمانية خطط تكتل إقليمي تقوده فرنسا، ويكون لإيطاليا وروسيا وإسرائيل والإمارات حصة فيه، لكن القاهرة تتجاهل أنها أول من يتحمّل مسؤولية إيصال الأمور إلى هذه الدرجة من التعقيد. لو كانت القيادة المصرية تبنّت، قبل عامين، سياسةً مغايرةً للتي اعتمدتها في خياراتها الليبية لكانت اليوم في وضع أقوى وأكثر تأثيرا في هذا الملف. وهي حاليا تريد التموضع مجدّدا، ولكن ما بقي بين يديها هو التهديد والتصعيد والاستقواء بباريس وموسكو وأبوظبي.
من سيشرح للشعب المصري حقيقة ما جرى من تفاهمات ترسيم حدود بين مصر وقبرص اليونانية؟ وزير الصناعة والسياحة القبرصي اليوناني، نيكوس رولانديس، هو الذي تطوّع قبل أيام لفعل ذلك. "ترسيم الحدود البحرية على طول الخط الوسيط كان إنجازًا عظيمًا بالنسبة لنا، لأن القبارصة اليونانيين سيطروا أربع مرات أكثر على المناطق التي يستحقونها. لو أبرمت القاهرة اتفاقاً مع تركيا، بدلًا من القبارصة اليونانيين، لكان خط الوسط يقع أكثر شمالًا، وكان يحق لمصر الحصول على 21،500 كيلومتر مربع إضافية".
قرار التصعيد الجديد الذي يقوده السيسي قد يتركه أمام ورطة تحويل المشهد الليبي إلى الحالة العراقية في مطلع التسعينيات
يقول السيسي إنه لا يريد تكرار السيناريو السوري في ليبيا، وهو محقّ، لكن قرار التصعيد الجديد الذي يقوده قد يتركه أمام ورطة تحويل المشهد الليبي إلى الحالة العراقية في مطلع التسعينيات مع صدام حسين، وطريقة دخول الجيش العراقي الكويت وأسبابها وتطورات ما بعد ذلك، عراقيا وعربيا وإقليميا. ويجمع السيسي بين الأمن القومي المصري والأمن القومي العربي، فيما القيادة المصرية هي التي أهملت الأمن القومي العربي سنوات، وتركته من دون حماية وغطاء، بعدما قررت التفاوض مع إسرائيل، وإعلان الصلح معها من جانب واحد، غير عابئة بقرار إبعادها عن جامعة الدول العربية، في خواتيم السبعينيات في القرن الماضي. فكيف ستقنع العالم العربي بما تقوله في ليبيا، وهي التي تتغاضى عن إسرائيل التي تصول وتجول في العواصم العربية والعمق الفلسطيني، وتواصل سياسات القضم والضم واستهداف القدس وقطاع غزة؟
كان الإعلام الداعم لحفتر يردّد قبل أسابيع أن "أردوغان يبحث عن هزيمة جديدة في ليبيا بعد أن حشد المرتزقة من كل مكان للسطو على النفط الليبي". ويحاول هذا الإعلام الآن الاستقواء بكلمة الرئيس السيسي أخيرا عند الحدود المصرية الليبية أمام قوات من الجيش المصري، على الرغم من معرفة هذا الإعلام بانحسار نفوذ تكتل منصات الرباعي والسباعي والخماسي والثلاثي في القاهرة خلال الأعوام الأخيرة، لينتهي الأمر عند خط سرت - الجفرة في الخلطة الجديدة. والغرض توريط مصر في تكرار لعبة التناقضات، كما يعبر عنها كلام المتحدث باسم حفتر، احمد المسماري، إن الخيار العسكري لا مفر منه، وإن الاستعدادات كاملة لحسم الوضع في غرب ليبيا، حيث تسجل الملاحم هناك، ثم يعود ويتحدث عن ضغوط إقليمية ودولية تعرّضوا لها من قوى لم يذكر اسمها حالت دون تحقيق الحلم.
ثمّة من ينفخ في الأذن المصرية، يحذرها من تطويق تركيا نفوذها ومصالحها الإقليمية و"تسلل" أردوغان، وتوسّعه في قلب الخرائط العربية المفترض أنها كانت مصونة ومحمية ومتماسكة في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية على سورية والعراق ولبنان وفلسطين، مع استهداف قطر من جيرانها وأشقائها الخليجيين، ومواجهة المشروع الكردي الانفصالي على حساب وحدة سورية والعراق. وكل ما يقال عن رغبة مصرية في مواجهة تركيا داخل ليبيا والمتوسط مناورات سياسية دبلوماسية لتحسين مواقعها هناك ليس أكثر. لا رغبة مصرية أو تركية في دخول المواجهة العسكرية المباشرة التي يشجع عليها بعضهم، لأن ارتداداتها ستكون أكبر مما نتصوّر، ولأن أطرافا ثالثة هي التي ستكون المستفيد، والتي يهمها زرع الفتن والتفتيت والشرذمة.