للأدب الإيراني صلة بالشهود؛ ومهمة الشاعر والكاتب هي السير في أقاليم الباطن والتأمل في الروح وتنعكسُ هذه التأملات بصورة تمثيلية في عالم الأدب. الفن المعماري الإيراني له سيرٌ إلى الداخل.
الوجه الخارجي للعمارات الطينية العالية بسيط جدًا، ولكن الدهاليز والسرادق المؤدية إلى الحدائق والقاعات وغرف المرايا وتشكيلة الجص في غاية الإثارة. للحديقة الفارسية تجلٍ في السجاجيد وتظهر الهندسة الخيالية في الفسيفساء وما صنعته الأيدي؛ وتختفي الحكمة الإيرانية في الشعر ويظهر سرّ حياتها في الخرافات والأساطير. الفرد الإيراني له سيرٌ إلى الباطن وهذا السيرُ ينعكس في المنمنمات التي هي الأخـرى تعكس أقاليم العالم المعنوي والخيال القومي. الأصل هو باطن الإنسان وتبعًا لهذا الأصل يكون للعالم تعبيرٌ إنساني. الإنسان عالم صغير، يصنع به العالم الخارجي نفسه.
نحن تخيلنا هذا منذ آلاف الأعوام. إذن الأصل والأصيل من وجهة نظرنا هما الذهني وليس الواقع العيني الذي نرى. نحن كنا نطالب بتحقيق الصور الذهنية في العالم الواقعي ولكن هذا الأسلوب لا يجعلنا خياليين، بل يعطي للعالم المادي بُعدًا إنسانيًا. عبر الإنسان يكون للعالم الطبيعي معنى ومفتاح معرفة الإنسان ليس في العالم الخارجي، إنما في قلبه. نحن سمينا هذا المفتاح، الحبّ؛ وفي أنوار هذا المفتاح يتعالى الإنسان والوجود أيضًا.
نحن الشعراء والكتاب، نكتشف وحدتنا وفرديتنا أثناء الكتابة وعندما نكتب يكتشف العالم والآخرون ذاتهم بنا. نبدأ من ذاتنا ونصل إلى الآخـر؛ نبدأ من ثقافتنا وبمعرفتنا العميقة لهويتنا، ونتعرف إلى الثقافات الأخرى وإلى نظائرنا في العالم. وهكذا تتوحد الثقافة العالمية بلغة الفن.
كان العالم منذ البدايات متوحدًا ولكن وبعد مضي قرون كثيرة يتجه نحو وحدة لا بد منها. نحن في كل أنحاء العالم نتكلم لغةً واحدة، لغة الثقافة الإنسانية، ولكن في بابل الحديثة يبدو أننا لا نفهم بعضنا بعضًا إلا إذا تجاوزنا تخوم هذه اللغات المتفق عليها وهي تركن في حدود جغرافية معيّنة. لغة الثقافة، أعني لغة الخيال، هي اللغة الوحيدة لأصحاب الأقلام؛ لغة السلام والحبّ، وليس اللغات المحدودة في جغرافيا السلطات التي اختلطت بالعنف والحرب والجهل.
منذ أولى كتابات عبدة الشمس في لوحات الطين وحتى زمننا الحاضر كان لمفردة الحب دورٌ مهم في الأدب الإيراني؛ ولا شك أن الأمر مماثل في الثقافات الأخرى. لأن الثقافة تمامًا مثل الخيال الإنساني لا تحد بحدود جغرافية. هذا البحر يعوم بسفينتنا نحن الباحثين عن السلام والعشاق إلى برّ الأمان ويتجاوز بنا طوفان العداوة والاشتباكات العمياء؛ لأن سفينة الأحرار لا تركن في الطين ولا تستطيع القوى الشيطانية أن تنال منها؛ لأنها تعوم تحت شمس الحرية والخلاص.
يتوجه الفن إلى معرفة الإنسان وصناعة باطنه؛ ومهمته إعمار الذهن البشريّ، إنه يعمل على الحقيقة؛ فالعلم والتكنولوجيا وأدواتها تتوجه إلى خارج الإنسان وتعمل على الطبيعة والواقعية. نحن أصحاب الأقلام لسنا بغافلين عن الخارج، لكننا آمنون في حياتنا الداخلية ونحتفظ بجوهر الذاكرة البشرية. الثقافة بالنسبة لنا هي مسارٌ بدأ منذ آلاف الأعوام حتى اليوم. هذا المسار حاول أن يثبت بتواصله مع الثقافات الحديثة والقديمة؛ حتى يصل صوت الإنسان الذي يحمل الحقيقة، إلى العالم بحرية وعدالة.
الحكام والتجار والسياسيون يستطيعون أن يكذبوا على الناس ويخدعونهم؛ لكن الثقافة كما شهد التاريخ، لا تستطيع أن تخدع الناس ولا أن تشن حربًا ولا تستصغر بالإنسان والطبيعة الجميلة. الكتاب باستطاعتهم أن يكذبوا لكنهم لا يحتاجون إلى الكذب. وعلى مدى التاريخ كان الكتاب كاشفين لأكاذيب كبرى في العلاقات الإنسانية. وعذابات الكاتب تأتي من مشاهدة هذه الحالة الكاذبة والكارثية.
الأدب يجعلنا مرتبكين بين الذهن والعين، بيننا وبين الآخرين، بين هذه الثقافة والثقافات العالمية. الفن والأدب هما مرساة التخييل بين البشر؛ نقترب دائمًا ونبعتد كي نقترب أكثر في فضاء مشترك باحثين عن لغتنا الإنسانية الضائعة.
ويكون الفن في الثقافة الإيرانية وراء" الربح والخسارة" ويفصل نفسه عن نظام القيم المادية. والفن هنا يعني التقدس والتقشّف الروحي وكما يقول نيمايوشيج ضربٌ من الشهادة. مكافأة الفن، من وجهة نظر الفنان، تكمن في الفن ذاته، في المتعة وولع الإبداع. في عالم معاييره الربح والخسارة، يظهر الفن من أجل السلام والتسامي والمتعة والوحدة الإنسانية. الفنان الحقيقي يصد للعصبية والازدراء والعداوة والجشع ويحاربها.
نحن هنا، إلى جانبكم، كمواطنين في عاصمة خرافية، في مدينة كبيرة للإنسان المتألم والطروب الذي يتألم من أوضاع الحاضر والحالة غير المعبّدة، لكنه في نفس الوقت يبدع بفرحٍ وطرب إلهيين. زاخرًا من أجل معرفة الوضع الإنساني وساعيًا إلى سعادة الناس، من أجل أن يجعل هذا العالم محتملاً. هذه هي معجزة الأدب والفن التي نستطيع عبرها أن نقف إلى جانب صوت هومير ودانتي وحافظ وويتمان وأن نعشق بالجوهر الإنساني ذاته. ينبغي أن نعمل، قريبين أو بعيدين، متحدين من أجل الجميع؛ من أجل أمنا الدنيا الغادرة.
**الترجمة عن الفارسية حمزة كوتي