منذ بداية الحرب يقوم طرفا الصراع بتصفية الحسابات في ما بينهما لكن على حساب الناس من خلال عملية قطع الرواتب في وقت لم تتأثر مصالحهم الشخصية ولا مداخيلهم، وكأن الراتب الشخصي ليس حقاً يكفله القانون والدستور لكافة موظفي الدولة. لكن يظهر، وبما أن كافة من يحكمون اليمن اليوم هم من ورثة الرئيس السابق علي عبد الله صالح، الذي كان أول من أسس لظاهرة قطع الراتب عن معارضيه، أنهم قد بالغوا في نهل خبرتهم منه فراحوا يمنعون الرواتب على غالبية موظفي الدولة في حالة تحصل للمرة الأولى في تاريخ اليمن الحديث.
القناعة بعدم رغبة الطرفين في حلحلة أوضاع المواطنين التي تتدهور بسرعة غير مسبوقة، تسود لدى اليمنيين من أقصى الشمال حيث سيطرة جماعة الحوثيين والحرمان من الرواتب إلى أقصى الجنوب حيث تصرف الرواتب ولا تزال تحتفظ الشرعية بوجودها وإن كانت تزاحمها فيها الإمارات والسعودية. إزاء هذا الوضع يصبح خيار الانفجار الشعبي وارداً لا سيما بعدما بات الناس يجاهرون في الشوارع، بما في ذلك في صنعاء، بعدم قدرتهم على الاحتمال أكثر وهم عاجزون عن إيجاد ما يسدون به رمق عائلاتهم. وإن كانت موجبات التحرك الشعبي في صنعاء مكتملة نتيجة انهيار حياة المواطنين بفعل غياب الرواتب والارتفاع في أسعار السلع الأساسية حتى بات شراء علبة تونة أمراً مستحيلاً لأسر كثيرة تكتفي بالخبز والماء كـ"وجبات" لها، فإن الوضع لا يبدو مختلفاً كثيراً في عدن حيث تصرف الرواتب، بعدما قطع محتجون غاضبون، أول من أمس الأحد، شوارع رئيسية في المعلا، والشيخ عثمان، والمنصورة، وخور مكسر، والشعب، والبريقة احتجاجاً على انهيار الريال والارتفاع الجنوني في الأسعار، فيما أقرت حكومة الشرعية بعدها بساعات "زيادة في مرتبات القطاع المدني بمن فيهم المتقاعدون والمتعاقدون". فهل يكون العصيان المدني والخروج إلى الشارع هو الحل إزاء الوضع المتردي؟
يقول الباحث في مركز الدراسات اليمني بصنعاء، قادري أحمد حيدر، إنه لا بد من تحركات عاجلة حول الراتب لعلّ أهمّها وأقربها الدعوة إلى النزول للشارع "للدفاع عن ذلك الراتب، وغيره من الحقوق السياسية والوطنية"، ووصفها بأنها "الدعوة الوحيدة الصادقة لمراكمة الوعي المتجاوز للسائد(وعي إبداعي انتقادي)". وشدد على أن هذا الوعي "من المهم اعتماده وتدعيمه، ومراكمته". ويشير في الوقت ذاته إلى انطلاق المسألة من "صوابية الدعوة الواعية، المنظمة، المدروسة إلى النزول للشارع دفاعاً عن الحق في الراتب، بتوافق وانسجام بين الشرطين، الذاتي، والموضوعي".
وفي هذا الاتجاه يقول قادري "علينا أيضاً تفعيل تحريك قضية الراتب على المستوى القضائي، والدعوة إلى تشكيل هيئة محامين أكفاء من الداخل والخارج، وأن تتحرك نقابة المحامين ومنظمات المجتمع المدني للدفاع عن حق عام: سياسي، حقوقي، دستوري، قانوني، يتصل بمعنى حياة الناس وعيشتهم ومصيرهم الإنساني". وهو يؤكد هنا أنه "نعم" لم يتبق للناس سوى النزول للشارع وهذا بالتزامن "مع رفع القضية إلى المستوى الحقوقي القضائي وتحويلها إلى قضية رأي عام سياسي وقضائي وشعبي باتجاه محاكمة سلطتي عدن/وصنعاء، بخصوص مصادرة الراتب عن الملايين". وشدد على أنه يجب على طرفي الشرعية، وسلطة الأمر الواقع (الانقلاب)، عدم وضع الراتب في خضم اللعبة السياسية الصراعية، في الحرب الجارية وهذا "لأن الراتب، كان، ويجب أن يبقى، في جميع الصراعات والحروب، بمنأى عن المساس به، والاعتداء عليه، خصوصاً أنه يتصل بعيش، وحياة ملايين الناس، الموزعين بين طرفي الصراع، فقطع الرأس ولا قطع المعاش". ويضيف قادري بأنه يجب بأن لا يُعاقب الناس في مصدر عيشهم، ورزقهم الوحيد، فإذا "كانت الشرعية تريد تضييق الخناق على سلطة الأمر الواقع، وإسقاط مشروعهم المناقض لمصالحها، هناك مداخل وطرائق عديدة لذلك (سياسية، واقتصادية، ومالية)، بعيداً عن حق الناس في الراتب". وبالنسبة إليه "وجه الاستغراب أو المفارقة هنا، أنهما يتناقضان ويختلفان في كل شيء وحول كل شيء، ولكنهما متوحدان ومتفقان في موقفهما السلبي في حق الناس في الراتب، وكأن الأمر لا يعنيهما".
من جهته، يقول محاضر في جامعة ذمار القريبة من صنعاء إنه بعد أن نفد صبره وانتهت كل مدّخراته اضطر إلى القبول بتسجيل نفسه في مدينة عدن بصفة "نازح". ويوضح كيف عليه أن يذهب نهاية كل شهر إلى عدن من مكان عمله ويتجاوز نقاط التفتيش وإذلال النفس كي يستلم راتبه الشهري. ويقول هذا المحاضر، الذي فضّل عدم ذِكر اسمه، في حديث مع "العربي الجديد"، إن أغلبية المحاضرين في الجامعات التابعة للدولة، بعد أن هجم الجوع على بيوتهم، اضطروا لفعل ذلك التسجيل و"تقديم أنفسهم على صورة لاجئين ونازحين في بلادهم". لكن تبقى الإشكالية وعبر الإمعان في إذلال الناس، أن جماعة الحوثي تحتجز أي موظف يريد الذهاب إلى عدن لتسجيل اسمه كنازح واستلام راتبه أو رواتبه المتأخرة، ويضيف "إنهم يتنافسون على قهرنا".
وفي جهة مُغايرة، يقول عبد الوهاب الشرفي، المقيم في صنعاء، والموظف في البريد، إن لا مشكلة لديه في مسألة الراتب لأنه يعمل في مؤسسة لم تنقطع رواتب الموظفين فيها، لكن تبقى القضية في الألم الجماعي للناس من حوله. ويضيف الشرفي، في حديثه مع "العربي الجديد"، أن كونه ما زال يستلم راتباً "هو ميزة شخصية إلا أن الموضوع كارثة بحق الناس الذين انقطعت رواتبهم، فأحوالهم مُتعبة، نسبة التشرد ترتفع، نسب العنف الأسري تتزايد، نسب الطلاق وتفكك الأسر، نسب الحالات النفسية كذلك". يشرح كيف أن "انقطاع الرواتب وفقد فرص العمل أيضاً نتيجة تأثر القطاع الخاص يعبث بالمجتمع بصمت وينخر بهدوء ولا أحد يهتم لهذه الأرقام". ويضيف "وضع صعب فعلاً ومجتمع أغلبه يتألم بصمت والنخب لصّة تستغل هذه الفرصة للنهب والعبث". ويضيف الشرفي "تصور أنت وسط كل هذه الكوارث الفاجعة، استيراد السيارات في تزايد كبير، سوق الأراضي والعقارات نشطة وأسعارها تتضاعف كثيراً" ويلفت إلى أن "رأس المال، نتيجة التخوف من النظام المالي، ينزاح للأراضي والعقارات وتتعطل فرص العمل كل يوم أكثر نتيجة لهروبها من أسواق العمل". وبالنسبة إلى الشرفي فإن "تعمّد المقامرة بالمدنيين وممارسة العقاب الجماعي بنقل البنك المركزي ورفع الجمارك أو استيفائها من السلطتين لمرتين، وطباعة عملة بدون غطاء بمئات المليارات من سلطة عبد ربه منصور هادي، وضخ التالف إلى الأسواق من قبل سلطة صنعاء واحتكار سوق المشتقات لصالح تجار بعينهم، كل ذلك يضاعف ويلات المواطنين".
وفي السياق، يقول الباحث اليمني في السياسات العامّة، أُسامة الروحاني، في حديث مع "العربي الجديد"، إن قضية أزمة البنك المركزي في ما يخص الرواتب وانهيار قيمة الريال اليمني أمام الدولار لا يمكن حلّها عبر الاقتراض أو استقبال هبة أو وديعة بكم مليار دولار ووضعها في احتياطي البنك المركزي للمحافظة على العملة. ويضيف "المشكلة في فشل وعدم رغبة الحكومة اليمنية (الشرعية) في العمل بشكل جاد وكذلك العمل على تفعيل المرافق الإنتاجية وإيجاد آلية لجمع الموارد المتاحة وإعادة توزيعها، وأيضاً فشل قيادة البنك المركزي في تطبيق سياسات أكثر نجاعة والعمل بشكل فعال مع (البنوك المحلية) وضبط ومساعدة الصرافين واستخدام الوديعة الموجودة بشكل أكثر فاعلية". ويشرح أن "هناك تفاصيل فنية يمكن مشاركتها عن كيف (يمكن حل المشكلة)، لكن الرغبة السياسية بالعمل تجاه تحقيقها غير موجودة أو رخوة جداً"، بمعنى أن لا حل قريباً لمسألة الرواتب كما لا إجراءات عاجلة لوقف انهيار العُملة المحلّية ليكون على المواطنين توقع انهيار إضافي في أوضاعهم.
يقول الصحافي منصور الجرادي، المُقيم في صنعاء والموظف في وكالة سبأ للأنباء إنه قد سمع بنفسه أحد أطراف الصراع وهو يقول "اذهبوا وروحوا اشقوا (اشتغلوا) على أنفسكم فلن يكون هناك رواتب، ومن يومها وأنا أبحث عن عمل جديد غير الصحافة وعن مصدر دخل جديد". ويضيف الجرادي، في حديث مع "العربي الجديد"، بأن الجهتين في صنعاء وعدن قد "اتخذتا مسألة الرواتب كوسيلة لكسر الشعب وإذلاله ولا أستثني أي جهة لا حكومة شرعية ولا سلطة الأمر الواقع في صنعاء، إنه تجويع مع سبق الإصرار والترصدّ". وحين سؤاله عن إمكانية ذهابه إلى عدن وتسجيل اسمه كنازح واستلام رواتبه، قال لنا: "لقد فكّرت في الأمر فعلاً، لكن أنا مواطن ولست نازحاً".