سبّب الإعلان الأميركي لتفاصيل "صفقة القرن" (الخطة الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية)، بصورة غير مباشرة، موجة جديدة من القمع الذي يمارسه النظام المصري ضد معارضيه، حتى داخل الأجهزة الرسمية ورفيعة المستوى في الدولة، وبالأخص وزارة الخارجية.
وكانت وزارة الخارجية مسرحاً لتغييرات هيكلية واسعة، منذ إطاحة حكم جماعة "الإخوان المسلمين" في يوليو/ تموز 2013، بدأها الرئيس عبد الفتاح السيسي مطلع 2014 بإبعاد جميع السفراء والملحقين والمستشارين، الذين عُيِّنوا في عهد "الإخوان"، بعد نشر شائعات عن انتمائهم إلى الجماعة أو تعاطفهم مع ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، ثم تفاقمت الظاهرة بتولي الوزير سامح شكري منصبه، الذي قام بعملية إبعاد منظّمة وتدريجية للدبلوماسيين والموظفين الإداريين المشكوك في ولائهم للنظام، اعتمدت أساساً على التحريات الأمنية ورأي الاستخبارات والرقابة الإدارية.
ويعود سبب الموجة الجديدة من التصعيد إلى رصد الاستخبارات تصاعداً في نبرة الانتقادات، داخل المجموعات الخاصة بالعاملين في السلك الدبلوماسي على مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقاته، للأسلوب الذي تعاملت به الخارجية رسمياً مع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب تفاصيل خطته، ورد الفعل المصري الضعيف، من خلال بيان خلا من المحددات الاستراتيجية والتاريخية للموقف المصري من القضية الفلسطينية، الأمر الذي سُرِّبَت أنباء من داخل الخارجية بشأنه فيما بعد، مفادها أن البيان الصادر عن وزارة الخارجية جرت مراجعته استثنائياً من مكتب رئيس الجمهورية، وحُذف أي ذكر للقدس الشرقية عاصمةً لدولة فلسطين المأمولة، بصورة مقصودة، ليتماشى البيان الضعيف مع البيانات الأخرى الصادرة عن دول عربية أخرى.
الانتقادات التي وجّهها دبلوماسيون من مختلف الأعمار والاتجاهات، ومن داخل ديوان الخارجية وخارجه في البعثات الدبلوماسية المختلفة للبيان الرسمي، كانت لاذعة، ما دفع النظام، بعد أيام معدودة، إلى الإيعاز إلى مكتب وزير الخارجية، بناءً على تحريات استخبارية، باستدعاء عدد من السفراء والوزراء المفوضين والمستشارين العاملين داخل ديوان الخارجية، وتهديدهم باتخاذ إجراءات ضدهم، سواء بحرمانهم فرص الترقي أو الالتحاق ببعثات خارجية، في حال الاستمرار في الحديث "السياسي" و"المعارض" في مجالسهم الخاصة ومجموعات التواصل الاجتماعي.
وقالت مصادر دبلوماسية، لـ"العربي الجديد"، إن الاستدعاءات لم تقتصر فقط على مجموعة ممن عارضوا توجه الدولة إزاء "صفقة القرن"، بل شملت أيضاً عدداً من الدبلوماسيين والعاملين في الخارجية الذين ابتعدوا تماماً عن مجال العمل العام منذ سنوات. وأوضحت أنه جرت مواجهتهم بتقارير استخباراتية عن أنشطة سابقة لهم، مع منظمات محلية ودولية ووسائل إعلام يعتبرها النظام "معادية للدولة"، وأُخطِروا بأن عليهم "نسيان الترقية والبعثات الخارجية بسبب تلك الأنشطة"، التي يتمثل أغلبها بالمشاركة في دراسات بحثية وندوات ومؤتمرات في الفترة بين 2011 و2015.
وذكرت المصادر أن الاستدعاءات عكست اتساعاً "غير مسبوق" في نطاق المراقبة الأمنية للدبلوماسيين العاملين داخل الديوان وخارجه، وكذلك للمتقاعدين، خلال الشهور الأخيرة، لتمتد إلى إعداد تقارير، على مدار الأسبوع، عن نشاطهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ولقاءاتهم في النوادي والمصايف والأنشطة التي يحضرونها. وأوضحت المصادر أن معظم الدبلوماسيين المهددين هم في الأصل من ضحايا السياسة التصعيدية التي انتهجها سامح شكري برفض تجديد الإجازات من دون راتب، وتخييرهم بين العودة إلى العمل في الديوان والاستقالة مع التنازل عن حقوقهم المالية، الأمر الذي حدث مع العشرات من الدبلوماسيين، الذين كانت لهم مواقف مؤيدة لثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، وكان أبرزهم الكاتب الروائي والدبلوماسي عز الدين شكري فشير الذي فُصل في أغسطس/ آب الماضي.
وتكرر هذا السيناريو كثيراً في وزارات وجهات حكومية مختلفة بعد انقلاب السيسي، من التعليم والكهرباء والاتصالات، إلى القضاء والسلك الدبلوماسي، مروراً حتى بالإعلام الحكومي. هذا المنحى تكرس نتيجة التدخّل الأمني، ثم الاستخباري والرقابي الإداري الواضح، في سياسة تسيير تلك المرافق، وتصاعد الحملات الداعية إلى "تطهير الدولة من الإخوان ونشاط الثورة"، التي بلغت ذروتها عام 2014 مع صعود السيسي إلى السلطة رسمياً.
وسبق أن قالت مصادر دبلوماسية أخرى، لـ"العربي الجديد"، إن التضييق على الدبلوماسيين المعارضين، أو غير المجازين أمنياً، باستخدام تلك الطرق الروتينية، لكن مع تكثيف استخدامها وتسريع خطوات التخلص منهم، اتُّبع منذ سبتمبر/ أيلول 2018، حين نشرت "العربي الجديد" تقريراً عن مساومة الوزارة للسفراء والملحقين المعارضين بين الاستقالة أو العودة إلى العمل بدوام كامل، ومن دون بدلات تذكر في ديوانها. فبعد أيام من إعلان الحركة الدبلوماسية، قبل الأخيرة، في وزارة الخارجية المصرية، التي تضمّنت تغيير السفراء في عدد من العواصم المهمة، والدفع بآخرين بناءً على توصيات جهات أمنية، بدأت الوزارة إجراءات جديدة للتنكيل بالسفراء الذين كانت قد منحتهم إجازات بلا راتب، في الفترة بين عامي 2013 و2015، للتخلص منهم على خلفية آرائهم السياسية، وانتماء بعض أفراد أسرهم إلى تيارات معارضة للنظام الحاكم، بعد الانقلاب على الرئيس المعزول الراحل محمد مرسي.
وكشفت المصادر أنه منذ ذلك الوقت فُصل أكثر من 50 دبلوماسياً من درجات مختلفة، وأُجبر العشرات على الاستقالة، وذلك على خلفية أمور لا تنحصر فقط في العمل لدى جهات، تراها الوزارة والجهات الأمنية التي تستطلع رأيها، "معادية لمصر"، كالمنظمات الحقوقية داخل البلاد وخارجها، أو نشر كتابات نقدية معارضة، مثل حالة فشير، بل تعدى الأمر ذلك ليصل إلى المحاسبة على الكتابات الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي والتعليقات التهكمية أو حتى التلميحات. وخلال عامي 2018 و2019، رفع كثير من الدبلوماسيين الذين مرّوا بموقف فشير، دعاوى قضائية ضد الوزارة لإلغاء قرار فصلهم، أو إلزام الوزير بالموافقة على تجديد إجازتهم ما داموا يدفعون الرسوم والضرائب اللازمة قانوناً، وما زالوا ينتظرون الأحكام النهائية في دعاواهم. يذكر أنه منذ عام 2017، اتّبعت وزارة الخارجية نظاماً جديداً لتأهيل الخريجين الشباب، الذين اختيروا للتعيين في السلك الدبلوماسي، سواء من خريجي كليات العلوم السياسية أو الاقتصاد، أو باقي التخصصات التي يجري تأهيلها للعمل بوظائف مختلفة داخل الوزارة. ويقوم هذا النظام على إلحاق الخرّيجين المقبولين بدورات تأهيل في أكاديمية ناصر العسكرية، ثم في الأكاديمية الوطنية لتأهيل الشباب، التي أنشأها السيسي، يحاضر فيها مسؤولون في وزارة الدفاع وعدد من الأجهزة الاستخبارية والأمنية.