تزايدت ضغوط الحياة في موريتانيا فتغيّرت العادات الاجتماعية وارتفعت نسبة النساء العاملات، ليصبح قرار الزواج وتأسيس عائلة خاضعاً لكثير من الظروف الاجتماعية والنفسية والمادية. وأدّت هذه الظروف إلى بقاء كثيرات من دون ارتباط، حتى في المجتمعات التي تقدّس فكرة الزواج وتربط ما بين نجاح المرء في حياته وقدرته على تكوين عائلة. ويزداد الأمر صعوبة بالنسبة إلى الموريتانيات اللواتي يؤجّلنَ قرار الزواج في انتظار تحسّن ظروفهنّ الأسرية، أو تحقيق نجاح في حياتهنّ العملية.
وتضحّي شابات موريتانيات بالزواج وتكوين عائلة لأسباب عدّة، أبرزها الظروف العائلية التي تحتّم عليهنّ إعالة الإخوة أو أبناء الإخوة أو العناية بالوالدَين، كذلك ثمّة من يفضّلن تحقيق النجاح المهني قبل الارتباط وإنجاب الأطفال. وإذا أخذنا في عين الاعتبار انتشار العنوسة الاختيارية في أوساط الشباب، وارتفاع تكاليف الزواج والشروط والمعايير التي يفرضها المجتمع الموريتاني على المرأة في اختيار زوج مناسب، من قبيل تكافؤ النسب والوسط الاجتماعي وعدم الزواج بأجنبي، نجد أنّ فرص التحاق الشابات بقطار الزواج تتناقص لتصير الواحدة منهنّ رهينة الظروف المحيطة بها والتي قد تبقيها عزباء حتى آخر يوم من حياتها.
ولا تخفي كثيرات، من اللواتي فضّلنَ الوظيفة على الزواج أو استسلمنَ لظروفهنّ العائلية، ندمهنّ على رفض طلبات الزواج في مرحلة معيّنة من حياتهنّ وتأجيل فكرة تكوين عائلة وإنجاب أطفال إلى مرحلة أخرى. ويعترفنَ بأنّ العمر سرق منهنّ حلماً كان من أولوياتهنّ في مرحلة المراهقة، إلا أنّ مشاغل الحياة والظروف الأسرية حالت دون تحقيقه. ويرفع الشعور بعدم الاستقرار النفسي والأمان العاطفي اللذَين تحققهما الأسرة من الإحساس بالندم لدى النساء اللواتي أخّرنَ زواجهنّ طواعية، وأصبحنَ من دون عائلة بعد وفاة الوالدَين أو استقلال الإخوة عنهن.
تقول عائشة (51 عاماً) وهي موظّفة أنّ "مرحلة الزواج الأوّل في المجتمع الموريتاني مرتبطة ببداية العشرينات، وكلّ من تتخطّى هذه المرحلة من دون زواج تصبح في نظر المجتمع عانساً ومعقّدة، ويرفض الجميع الارتباط بها وتصبح الأرملة والمطلقة مفضّلتَين عليها". تضيف أنّ "الأعراف والتقاليد تدفع بالموريتانيات إلى انتظار العريس الموعود والالتزام بشروط المحيط العائلي. لكنّ الشابة أحياناً لا تجد فارس أحلامها بين الذين يتقدّمون لخطبتها، فتؤجّل الزواج إلى أن يتحقق حلمها وتجد عريساً مناسباً أو تتحسّن ظروفها الأسرية".
وعن الأسباب التي جعلتها ترفض الزواج، تقول عائشة: "سافرت إلى خارج البلاد لإكمال دراستي بعدما حصلت على منحة ودرست الصيدلة. وحين عدت كان والدي قد توفي وكان إخوتي صغاراً يحتاجون إلى من يعيلهم ويعينهم لإكمال دراساتهم. لذا كان ردّي على جميع من تقدّم لخطبتي منذ حصولي على الثانوية العامة وحتى عودتي من الخارج، أنّني أطمح إلى تحقيق نجاح عملي ومساعدة أسرتي ومن بعدها الزواج". وراحت أحلام عائشة تكبر، فبعد حصولها على وظيفة رسمية في صيدلية، صارت تطمح إلى فتح صيدليتها الخاصة ثم توسيع المشروع رغبة في زيادة الدخل مع تزايد احتياجات الأسرة.
وتشير عائشة إلى أنّها كانت تتلقى من حين إلى آخر طلبات زواج، لكنّها لم تدرك أنّ قطار العمر يسير بهذه السرعة. تضيف: "عندما بلغت 37 عاماً تعرّفت إلى رجل محترم تتوفّر فيه كل الشروط المطلوبة. وتمّت الخطبة واتفقنا على موعد للزواج. وقبل الموعد، تدهورت صحة والدتي وصرت ملزمة بالعناية بها ومرافقتها في البيت لعدم قدرتها على الحركة وقضاء حاجاتها بنفسها. وبعد فترة من الانتظار، رفض العريس هذا الوضع وفُسِخت الخطبة".
وعلى الرغم من أهمية التضحيات التي تقدّمها الموريتانيات في سبيل سعادة عائلاتهنّ واستقرارها، فإنّها لا تكون محلّ تقدير خصوصاً من قبل الإخوة الذين يتجاهلون تضحية شقيقتهم الكبرى بالزواج خدمة لمصلحة الأسرة. آمنة (48 عاماً) وهي موظفة، من هؤلاء. هي كسبت محبّة الآخرين وتعاطفهم معها بعدما رفضت الزواج من أجل إعالة أسرتها مادياً، لكنّ ذلك لم يشفع لها لتنال عطف أشقائها ومحبتهم، لا سيّما بعدما تقدّم بها العمر وصارت وحيدة تفتقر إلى الأمان الأسري وتندم على عدم الزواج والإنجاب. وتقول آمنة إنّ "عدم الزواج وتكوين أسرة لهما تأثيرات نفسية واجتماعية كبيرة على كلّ من كانت ترفض الزواج، خصوصاً بعد وفاة الوالدَين حين تصير المرأة العزباء وحيدة وتضطر مع مرور الوقت إلى العيش عند إخوتها وأقاربها وتفقد مكانتها بعدما كانت محوراً رئيسياً في عائلتها".
وترى آمنة أنّ "قرار المرأة عدم الزواج أو تأجيله ليس سهلاً، خصوصاً في المجتمع الموريتاني المحافظ. فهو قرار يتطلب كثيراً من القوة والحب والتضحية". وتؤكد أنّه لو عاد بها العمر، "كنت لأختار الزواج وإنجاب أطفال، إلى جانب إعالة إخوتي بحسب قدرتي، وليس التضحية بحياتي الخاصة من أجل أن يستقروا بحياتهم بعيداً عنّي".
في السياق نفسه، يرى الباحث الاجتماعي، أحمدو ولد الزين، في حديث مع "العربي الجديد" أنّ "تأجيل المرأة قرار الزواج ناتج عن قناعة شخصية مخالفة لما يريده المجتمع منها، لكنّها متوافقة مع ما تحتاجه عائلتها من خدمة للمعيشة من خلال الإنفاق أو المساعدة في حالة المرض. كذلك فإنّها قد تكون مرتبطة برغبة جامحة في تحقيق النجاح المهني وقد تكون مرتبطة بتجارب عاطفية فاشلة".
ويشير ولد الزين إلى أنّ "كثيرين قد لا يتفهمون ظروف المرأة التي تختار عدم الزواج بإرادتها ولا يجدون مبرراً لرفضها الارتباط وتكوين أسرة، الأمر الذي يضيّق عليها فرص الزواج حتى في سنّ متقدمة". ويدعو الباحث إلى "عدم تحميل المرأة ما يفوق طاقتها، خصوصاً مع ارتفاع تكاليف المعيشة وحاجة الأسر إلى أكثر من معيل. ولا بدّ من محاربة النظرة النمطية تجاه المرأة التي تنغمس في تحقيق أحلامها وطموحاتها، وتحقق نجاحاً هائلاً في عملها، فتكون ضحيّة نفور من الرجل".