31 أكتوبر 2024
موسم الهجرة من الأردن
(1)
لسنوات خلت، ظل الأردن مقصدا للجوء كل من يضيق عليه بلدُه، فقد استقبل هجراتٍ متكرّرة من لبنان، العراق، سورية، كلما تأزمت تلك البلاد ومسّها الخوف والاضطراب والقلاقل والحروب. وقبل هذا وذاك، كانت الضفة الشرقية من الأردن مقصدا لسكان الضفة الغربية من الأردن، خصوصا قبل أن يعلن الأخير فك ارتباطه بها بعد سنواتٍ من وقوعها في قبضة الاحتلال الصهيوني، حينما كانت تحت السيادة الأردنية. وها هو الزمن يدور، ويصبح الأردن أرضا طاردةً لأهله، فقد بدأ حلم الهجرة يداعب الآلاف من هؤلاء، وربما مئات الآلاف، حيث تفيد دراسة لمعهد غالوب الدولي بأن نحو 19% من مجموع الأردنيين و27% من الشباب و29% من الكفاءات التعليمية، يرغبون بالهجرة "بشكل دائم"، إذا أتيحت لهم الفرصة، ويبدو أن "الفرصة" هُيئت لأعدادٍ متزايدة، فيمّموا بوجوههم شطر المنافي، تاركين وراءهم عيونا تشخص لهؤلاء، حسدا أو غبطة.
ما الذي حصل حتى وصل البلد الذي كان مقصدا للمهاجرين إلى أن يصير أرضا طاردة لمواطنيه؟
(2)
في وقت سابق من العام الفائت، خاطب الفتى الأردني قتيبة البشابشة رئيس الحكومة الأردنية المُكلّف آنذاك، عمر الرزاز، عبر "تويتر"، قائلا "دولتك ممكن تصير الأردن زي ما بدنا بالقريب؟ يعني في احتمال نشيل الهجرة من راسنا ونصير نحب العيشة بالبلد؟ جاوبني بصراحة وتجاملنيش". ورد الرزاز "يا قتيبة، نعم شيل الهجرة من رأسك، بس كون مبادر، وبمشاركة الجميع سنحقق ما نريد لنا وللأجيال القادمة إن شاء الله"، غير أن كثيرين حوّلوا عبارة "هاجر يا قتيبة" إلى أيقونةٍ على شبكات التواصل الاجتماعي، ويندر أن تجلس مع "مواطن" أردني، بغض النظر عن أصله ومنبته، من دون أن يحدّثك بشوق عن "الهروب" من البلد، والبحث عن أرضٍ أخرى، أكثر حنانا ودفئا من الأردن.
وربما تكون خيبة الأمل العميقة من حكومة الرزاز الجديدة التي جاءت، كما بدا، بإرادةٍ شعبيةٍ،
بعد مظاهراتٍ شعبيةٍ حاشدةٍ طالبت برحيل حكومة هاني الملقي، قد عمّقت الرغبة بالهجرة، فلم يكد يتغير شيء، بل يلحظ المراقب ما يشبه الانهيار في كل شيء، خصوصا في مجال الاقتصاد. والحديث يطول عن هجرة رؤوس الأموال، وإغلاق المصانع، وإفلاس الشركات والمؤسسات، والركود الرهيب في الأسواق، ولا تكاد تخلو جلسةٌ عائليةٌ أو صالونٌ سياسيٌّ من الحديث عن عدم اليقين بالمستقبل، وخطورة ما يعانيه الناس من عسر وشظف عيش، طاول السواد الأعظم من الطبقة الوسطى (وجزءا من العليا ربما)، التي هي عماد المجتمع، ومحرّكه الأساس. أما الطبقة الدنيا فحدّث عنها ولا حرج. ويكفي أن أقول هنا إن طارقةً قصدت بيتي يوما ليس بعيدا، سائلة إن كان لدي طعام زائد!
(3)
تتعدّد الاجتهادات التي تحاول تفسير ما يجري في الأردن اليوم، بحثا عن السبب الذي أوصل البلد إلى الحال الذي وصلت إليه، فثمّة اعتقادٌ يكاد يكون شاملا، خصوصا لدى نخب المجتمع، مفاده بأن هناك "تآمرا" على الأردن، لإيصاله إلى حافّة الهاوية، لإنضاجه للقبول بأي خيارٍ يُعرض عليه، في سياق ما دعيت صفقة القرن التي ثار الحديث عنها كثيرا، ثم هدأ، حتى بدا أن الإدارة الأميركية التي كانت، في وقتٍ ما، بصدد "الإعلان" عنها، بدأت بتطبيقها بصمت، وما يجري في الأردن من شبه انهيار لكل شيء، إلا جزءا من تهيئة المسرح، لتنفيذ ما يخصّ البلد من هذه الصفقة، وتتركّز التوقعات باتجاه ما يسمى "الخيار الأردني" مع تعدّد الاجتهادات بشأن تفاصيله، لكنها كلها تدور حول تصفية القضية الفلسطينية، على حساب الأردن وفلسطين كليهما.
ولا يغيب هذا التفسير كثيرا عما يعتقده عامة الناس، وإن كانوا أقلّ ولوغا في هذا الحديث، نأيا
بأنفسهم عن وحل السياسة، ربما لأنهم غارقون في وحلٍ من نوعٍ آخر، وحل البحث عن قوت اليوم، وسداد قيم فواتير الكهرباء والماء، والضرائب التي تحولت إلى غولٍ يبتلع الدنانير القليلة التي في أيديهم.
(4)
ثمّة عائلاتٌ كثيرةٌ لديها القدرة والاستطاعة لملمت مدّخراتها، وسيّلت ممتلكاتها وهاجرت، معظمها إلى تركيا. والحديث يطول عن حجم المهاجرين إلى هذا البلد تحديدا، وبالتأكيد لدى الجهات المعنية أرقام صادمة لمن سافر إلى تركيا ولم يعد. وثمّة عائلاتٌ أخرى وجدت فرصة للانضمام إلى أحد أقاربها سبقها إلى دولةٍ أوروبية، أو إلى أميركا، ففتح الطريق لأهله للحاق به. وثمّة نخبٌ سياسيةٌ واقتصاديةٌ، وربما إعلامية، جهزت حقائبها للرحيل سريعا، حين تدق "ساعة الصفر" فقد سبقها مالُها إلى بنوك الخارج، ولكن السواد الأعظم من الأردنيين لا حيلة لهم إلا انتظار "الراتب" الشحيح، وما يحمل لهم المستقبل من أخبار. وبانتظار حلول الفصل الأخير من مسرحيةٍ ربما لم يكتب بعد فصلها الأخير، وإن بدا أن نهايتها لا تشبه نهايات أفلام الأبيض والأسود السعيدة على الدوام.
لسنوات خلت، ظل الأردن مقصدا للجوء كل من يضيق عليه بلدُه، فقد استقبل هجراتٍ متكرّرة من لبنان، العراق، سورية، كلما تأزمت تلك البلاد ومسّها الخوف والاضطراب والقلاقل والحروب. وقبل هذا وذاك، كانت الضفة الشرقية من الأردن مقصدا لسكان الضفة الغربية من الأردن، خصوصا قبل أن يعلن الأخير فك ارتباطه بها بعد سنواتٍ من وقوعها في قبضة الاحتلال الصهيوني، حينما كانت تحت السيادة الأردنية. وها هو الزمن يدور، ويصبح الأردن أرضا طاردةً لأهله، فقد بدأ حلم الهجرة يداعب الآلاف من هؤلاء، وربما مئات الآلاف، حيث تفيد دراسة لمعهد غالوب الدولي بأن نحو 19% من مجموع الأردنيين و27% من الشباب و29% من الكفاءات التعليمية، يرغبون بالهجرة "بشكل دائم"، إذا أتيحت لهم الفرصة، ويبدو أن "الفرصة" هُيئت لأعدادٍ متزايدة، فيمّموا بوجوههم شطر المنافي، تاركين وراءهم عيونا تشخص لهؤلاء، حسدا أو غبطة.
ما الذي حصل حتى وصل البلد الذي كان مقصدا للمهاجرين إلى أن يصير أرضا طاردة لمواطنيه؟
(2)
في وقت سابق من العام الفائت، خاطب الفتى الأردني قتيبة البشابشة رئيس الحكومة الأردنية المُكلّف آنذاك، عمر الرزاز، عبر "تويتر"، قائلا "دولتك ممكن تصير الأردن زي ما بدنا بالقريب؟ يعني في احتمال نشيل الهجرة من راسنا ونصير نحب العيشة بالبلد؟ جاوبني بصراحة وتجاملنيش". ورد الرزاز "يا قتيبة، نعم شيل الهجرة من رأسك، بس كون مبادر، وبمشاركة الجميع سنحقق ما نريد لنا وللأجيال القادمة إن شاء الله"، غير أن كثيرين حوّلوا عبارة "هاجر يا قتيبة" إلى أيقونةٍ على شبكات التواصل الاجتماعي، ويندر أن تجلس مع "مواطن" أردني، بغض النظر عن أصله ومنبته، من دون أن يحدّثك بشوق عن "الهروب" من البلد، والبحث عن أرضٍ أخرى، أكثر حنانا ودفئا من الأردن.
وربما تكون خيبة الأمل العميقة من حكومة الرزاز الجديدة التي جاءت، كما بدا، بإرادةٍ شعبيةٍ،
(3)
تتعدّد الاجتهادات التي تحاول تفسير ما يجري في الأردن اليوم، بحثا عن السبب الذي أوصل البلد إلى الحال الذي وصلت إليه، فثمّة اعتقادٌ يكاد يكون شاملا، خصوصا لدى نخب المجتمع، مفاده بأن هناك "تآمرا" على الأردن، لإيصاله إلى حافّة الهاوية، لإنضاجه للقبول بأي خيارٍ يُعرض عليه، في سياق ما دعيت صفقة القرن التي ثار الحديث عنها كثيرا، ثم هدأ، حتى بدا أن الإدارة الأميركية التي كانت، في وقتٍ ما، بصدد "الإعلان" عنها، بدأت بتطبيقها بصمت، وما يجري في الأردن من شبه انهيار لكل شيء، إلا جزءا من تهيئة المسرح، لتنفيذ ما يخصّ البلد من هذه الصفقة، وتتركّز التوقعات باتجاه ما يسمى "الخيار الأردني" مع تعدّد الاجتهادات بشأن تفاصيله، لكنها كلها تدور حول تصفية القضية الفلسطينية، على حساب الأردن وفلسطين كليهما.
ولا يغيب هذا التفسير كثيرا عما يعتقده عامة الناس، وإن كانوا أقلّ ولوغا في هذا الحديث، نأيا
(4)
ثمّة عائلاتٌ كثيرةٌ لديها القدرة والاستطاعة لملمت مدّخراتها، وسيّلت ممتلكاتها وهاجرت، معظمها إلى تركيا. والحديث يطول عن حجم المهاجرين إلى هذا البلد تحديدا، وبالتأكيد لدى الجهات المعنية أرقام صادمة لمن سافر إلى تركيا ولم يعد. وثمّة عائلاتٌ أخرى وجدت فرصة للانضمام إلى أحد أقاربها سبقها إلى دولةٍ أوروبية، أو إلى أميركا، ففتح الطريق لأهله للحاق به. وثمّة نخبٌ سياسيةٌ واقتصاديةٌ، وربما إعلامية، جهزت حقائبها للرحيل سريعا، حين تدق "ساعة الصفر" فقد سبقها مالُها إلى بنوك الخارج، ولكن السواد الأعظم من الأردنيين لا حيلة لهم إلا انتظار "الراتب" الشحيح، وما يحمل لهم المستقبل من أخبار. وبانتظار حلول الفصل الأخير من مسرحيةٍ ربما لم يكتب بعد فصلها الأخير، وإن بدا أن نهايتها لا تشبه نهايات أفلام الأبيض والأسود السعيدة على الدوام.