نار المناطقية في التجربة التونسية
هل هي زلة لسان، ألمّت بمرشح الرئاسة التونسية، الباجي قائد السبسي، أم هي رسالة مبيتة أعدها عن سبق إصرار. في مقابلة مع إذاعة مونتي كارلو، قال السبسي إن الذين انتخبوا منافسه المنصف المرزوقي هم الإسلاميون والمتطرفون والسلفيون ولجان حماية الثورة السابقة. وما أن بُثت المقابلة، حتى نزلت كالصاعقة على سكان الجنوب والوسط الغربي في تونس، والذين اعتبروا أنفسهم معنيين بما قاله السبسي، واعتبروا كلامه على أمواج إذاعة فرنسية، اتهاماً خطيراً لهم بالانتماء إلى المتطرفين، باعتبار أن معظم الذين أدلوا بأصواتهم للمرزوقي، في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، هم من أبناء المناطق الجنوبية والوسطى، بينما كان نصيب الأسد للسبسي في الساحل والشمال الغربي، وشهدت العاصمة شبه توازن بين المرشحين.
انطلقت احتجاجات سكان الجنوب من مدينة مدنين، ودخلت تونس على خط الأزمة مجدداً، أزمة استثمرتها سياسياً أطراف عديدة. التقط الباجي قائد السبسي، المعروف بحنكته المشهود لها من الخصوم قبل الأصدقاء، التقط رد فعل الشارع سريعاً، وقال في مقابلة صحافية لاحقة إن تصريحه تم تحريفه، وإنه لم يقصد التفريق بين أبناء الوطن الواحد.
راجعتُ المقابلة الأصلية، فلم أجد أي إشارة إلى سكان الجنوب، لكن الباجي قائد السبسي، الضليع في اللغة الفرنسية، لم يتحدث عن "بعض" من انتخبوا المرزوقي، وإنما قال إن كل من انتخبوا المرزوقي إسلاميون ومتطرفون وسلفيون. ولا أعتقد أن الرجل الذي قضى سنوات عمره الطوال ممارسا للسياسة، وعاجنا طحينها في تونس، يطلق الكلام، من دون أن يكون معه ميزان ذهب، يستعمله، في هذه الأوقات كثيرة الحساسية من عمر تونس الحديث. وإذا استطلعنا، في قراءة سريعة، نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية، والتي حصل فيها السبسي على أكثر من 39%، متقدماً عن ملاحقة المرزوقي بست نقاط، فإننا نلاحظ أن اتجاه النتائج كان يميل إلى السبسي، أقله في الدور الأول، ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن جزءاً من الشارع التونسي الذي يعتقد أنه اطمأن لمصير الثورة، وإلى استقرار مؤسساتها، خصوصاً الدستور والبرلمان، ويعتقد أن مسار الاستقرار يجب أن تتولى زمام أموره الدولة العميقة التي خدمت في عهد الرئيسين، الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، وهي، في نظره، قادرة على أداء أفضل في الإدارة والتسيير، من مستجدين على أروقة السلطة. كما يعتقد بعضهم أن مسار الاستقرار تضمنه علاقات السبسي الدولية الغربية والخليجية، من حيث أنه قادر على طمأنة الشركاء الأجانب، وأنه، في نظرهم، يستطيع تحريك دواليب الاقتصاد المحلي الذي يعاني من فاتورة قاسية، بعد ثورة يناير 2011. كما أن حديث الشارع التونسي عن أخبارٍ، غير مؤكدة، عن وعود من دول خليجية بتوفير المال اللازم لتحريك عجلة الاقتصاد، وشراء السلم الاجتماعي، بشرط انخراط السبسي في سياسة مواجهة "الإسلاميين" زادت في تعميق هذا الاتجاه. وعليه، نستطيع أن نتساءل: هل كان كلام السبسي للإذاعة الفرنسية "فذلكة"، أو مزايدة في منافسة سياسية نحو قصر قرطاج، ليس إلا، أم أن الأمر كان رسالة منه إلى أطرافٍ محلية وأجنبية؟
أياً كان الجواب، فلقد أثارت تصريحات السبسي غباراً متطايراً لبّد سماء تونس إلى حين، إذ استطاع خطاب الحفاظ على التجربة التونسية المتفردة في الوطن العربي أن ينقذها، برمي كرة الوحدة الوطنية في الملعب السياسي، بعيدا من نهج المناطقية الخطير، والذي فيه من الوقود ما من شأنه أن يؤجج ما في الصدور من سنوات التهميش الطويلة التي عانتها مناطق الجنوب، في ظل النظام السابق.
وإذا كان جل الأطراف في تونس قد دعت إلى رفض شحن الأجواء، من خلال دعوة الأطراف السياسية، المعنية بالانتخابات الرئاسية، إلى الابتعاد عن كل ما من شأنه فتح الأبواب أمام تزايد موجة العنف، بما يؤثر على سلوك الناخب، وبناء الثقة بين المواطن والطبقة السياسية، أو فتح مناخ اجتماعي متشنج، يُحيي، أو يُقوي، نعرات مناطقية وقبلية وعشائرية ومذهبية، من شأنها أن تحيد بالثورة عن مسارها البنائي التراكمي الذي عرف تطورات مهمة، ومذهلة، نظر إليها التواقون إلى الديموقراطية بإعجاب، وتربص بها الحاسدون وقادة الثورات المضادة بالدسائس والمكر.
وإذا كانت النتائج الرسمية للانتخابات الرئاسية التونسية قد قلصت الفارق بين رئيس "نداء تونس"، قائد السبسي، والرئيس المؤقت، منصف المرزوقي، إلى 6% فقط، فإن على المُرَشحْين الطامحَيْن إلى النجاح في الانتخابات استقطاب جزء كبير ممن صوتوا لغيرهما من المرشحِين السابقين، إضافة إلى إقناع من فضلوا عدم المشاركة في التصويت في الدورة الأولى، وخصوصاً الشباب، غير أن رفض قائد السبسي دعوة المرزوقي إلى مناظرة تلفزيونية مباشر، أمام الشعب التونسي، أُسوة بعدد من البلدان الديمقراطية، إضافة إلى النتائج العكسية غير المتوقعة التي أفرزتها مقابلة السبسي مع إذاعة مونتي كارلو الدولية، من شأنها إنتاج مفاجآت كثيرة، غير متوقعة .
ولعل هذا أمر في منتهى الروعة، يُحسب في صالح الانتخابات، من حيث نزاهتها وشفافيتها، حيث لم تطعن أي جهة كانت في نتائج الدورة الأولى. كما لا يمكن، في الظروف الحالية، لأي طرف، توقع نتائج الدورة الثانية، حيث لم تعد للإدارة ولا للسلطة اليد الطولى في توجيه دفة الانتخابات، ما يضاف إلى رصيد تونس الإيجابي.