ترتدي الهبّة الفلسطينية الحالية، في الأراضي المحتلة جميعها، من الداخل الـ48 والضفة والقدس وقطع غزة، طابعاً لا يقتصر على الذكور، وسط تقاسم في الأدوار هو ضروري لنجاح الانتفاضة، مثلما كان سائداً في أيام العمل الفدائي وزمن الانتفاضتين الأولى والثانية حين خرجت إلى العلن أسماء مناضلات نافسن الذكور، لا بل تفوقن عليهم في الكثير من الحالات، حتى في المجالات العسكرية.
ومنذ أيام، تحولت الطالبة داليا نصّار (25 عاماً)، إلى أيقونة للفلسطينيات من رموز الهبة الحالية. ترقد داليا في العناية المكثفة في مجمع فلسطين الطبي، بعدما أصابها جنود الاحتلال الإسرائيلي برصاصة في الصدر، استقرت على بعد مليمتر واحد عن قلبها، وبات إخراج الرصاصة يشكل خطراً على حياتها، لا يقل عنه وجودها الذي دمّر جزءاً من رئتيها.
أصيبت نصّار في الرابع من الشهر الحالي، حين كانت تشارك في المواجهات التي اندلعت قرب مستوطنة "بيت إيل" شمال رام الله، مع طلاب وطلبة جامعة بيرزيت. تقول شقيقتها حنين لـ"العربي الجديد": "لم نستغرب يوماً مشاركة داليا في المواجهات مع الاحتلال، وحتى في هذه الهبة الكبيرة لم يحاول والدي منعها من المشاركة في المواجهات، فقد ربانا والدانا على العمل الوطني، ووالدتنا كانت من أبرز كوادر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الضفة الغربية المحتلة".
تشكل نصّار جزءاً من حالة نضالية باتت النساء يتصدرنها في مشهد يومي للمواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي على نقاط التماس منذ بداية الشهر الحالي. وباتت الصور التي يلتقطها المصورون لفتيات ملثّمات، ويرشقن الحجارة على جنود الاحتلال قرب "بيت إيل"، بقامات ممشوقة، وعيون لا تعرف الخوف، الأكثر انتشاراً على الوكالات الصحافية ووسائل التواصل الاجتماعي، بشكل يوحي بأن مشاركة المرأة الفلسطينية في المقاومة أمر جديد وغير مألوف، رغم أن الحقيقة ليست كذلك إطلاقاً.
يرى الكثير من المحللين والمراقبين أن الاعتداء على المرابطات في المسجد الأقصى على يد جنود الاحتلال ومستوطنيه، وإصرار هؤلاء النساء على التواجد في المسجد لحمايته، كان من أكبر عوامل الهبّة الحالية، فضلاً عن أنه كان عاملاً أساسياً في عمليات المقاومة الفردية ضد الاحتلال، "فالنساء يدافعن عن المسجد الأقصى ويقوم جنود الاحتلال بضربهن وسحلهن واعتقالهن أمام الكاميرات، ما يستفز كل إنسان حر"، على حد تعبير أحد عناصر حركة"حماس" لـ"العربي الجديد".
اقرأ أيضاً: خطيبات الأسرى الفلسطينيّين
وإذا كانت المرابطات المحجبات في المسجد الأقصى عاملاً كبيراً للهبة التي تشهدها الأراضي المحتلة حالياً، فإن الآلالف من النساء الفلسطينيات من مختلف الفصائل والمستقلّات يشاركن بتكوين مشهد المقاومة بشكل يومي، كما كان الأمر في الانتفاضة الأولى، والانتفاضة الثانية التي نفذت فيها النساء 27 عملية فدائية واستشهادية في العمق الإسرائيلي، واستشهد وجرح واعتقل منهم الآلاف.
وما بين محاولات طعن الجنود والمستوطنين، إلى تجهيز الزجاجات الحارقة "المولوتوف" للشباب المتواجدين على نقاط التماس مثل "بيت إيل" و"قلنديا" في رام الله و"حوارة" في نابلس وغيرها، إلى جمع الحجارة للشباب، ورشقها، وكشف الطرق الآمنية لهم للتحرك، حتى المشاركة في تشييع الشهداء، أثبتت النساء الفلسطينيات أنهن شريكات بشكل جذري في المقاومة كما كن دوما على مدار مراحل الثورة الفلسطينية منذ النكبة.
وسجلت مؤسسات الأسرى المختصة 213 حالة اعتقال لنساء فلسطينيات منذ بداية العام الحالي، فيما يقبع في المعتقلات الإسرائيلية 26 امرأة. وبينما تحتدم المواجهات على نقاط التماس مثل "بيت إيل" شمال رام الله، أصبح وجود الملثمات جنباً إلى جنب مع الشباب المثلمين أمراً مألوفاً رغم المحاذير الاجتماعية الضاغطة على المرأة في المجتمع الفلسطيني.
وبحسب المعطيات، فإن جزءاً من الفتيات يقمن بوضع اللثام لسببين: أولا حتى لا تتعرف عائلاتهن إليهن من خلال الكاميرات أو يشي بهن أحد لعائلاتهم التي لا تحبّذ مشاركتهن في رشق الحجارة جنباً إلى جنب الشبان، بل بقاءهن في البيت، الأمر الذي يرفضنه. أما السبب الثاني فهو أمني حتى لا يعرف جنود الاحتلال هويتهن، بينما تفضل أخريات المشاركة من دون لثام حتى.
اقرأ أيضاً: ارتباك القيادة الفلسطينية يُفرمل تحول الهبّة إلى انتفاضة ثالثة
تقول عضو إقليم حركة "فتح"، ميسون القدومي، التي تحرص على المشاركة في مواجهات "بيت إيل" بشكل دائم، إن "ما يحدث اليوم في هذه المواجهات هو أمر لافت، حيث تشارك وجوه جديدة من الفتيات، لم نعتد على مشاركتهن في السابق". وتابعت القدومي (28 عاماً) لـ"العربي الجديد": "لقد عشت الانتفاضة الثانية، لكنني أجزم بأن ما أراه اليوم غير مسبوق، من حيث كمية ونوعية المشاركات، والمشاهدات التي أراها كل يوم، وعلى سبيل المثال يوم الجمعة في جنازة تشييع الشهيد مهند الحلبي، كانت المرأة تهتف والرجال يرددون من ورائها، وهذا مشهد لم نعتد عليه في السابق".
وكان لافتاً أن تشييع الحلبي الذي شارك فيه الآلاف، كانت غالبيتهم من الشبان والفتيات بالعقد الثاني من العمر، أي الجيل الذي لم يعش مرحلة الانتفاضة الأولى ولا الثانية، لكنهم وجدوا أنفسهم جنباً إلى جنب من شتى الأراضي الفلسطينية يوحدهم الغضب ذاته، في تعال واضح على الأحزاب والانتماء السياسي. وكان من الملاحظ المشاركة الكبيرة للنساء في تشييع الشهيد الحلبي، على اختلاف الدين، والخلفية السياسية والاجتماعية والأكاديمية والعمرية، في حالة انسجام نادرة.
وترى ابنة الجهاد الإسلامي عطاف عليان أن تشييع الشهيد الحلبي عكس الهبة الجماهيرية الصادقة التي تعيشها الأراضي المحتلة اليوم. وتعتبر عليان التي قضت 14 عاماً من عمرها في المعتقلات الإسرائيلية أن "الشعب الفلسطيني يعيش اليوم انتفاضة شعبية، ومن البديهي أن تشارك النساء فيها، وخصوصا الشابات". وحول الانطباع السائد بأن الفتيات اللواتي يتبعن الفصائل الإسلامية مثل "حماس" و"الجهاد الإسلامي" أقل تواجداً على نقاط التماس مقارنة بفتيات الفصائل اليسارية وحركة "فتح"، تردّ عليان بأن "ما يحدث اليوم هو عمل جماهيري لم يتم تحديد توجهه، والحراك شبابي غير تابع لفصيل معين، ولا يزال في بداياته ولا نستطيع رصده والحكم عليه". وتلفت إلى أن "ملاحقة الاحتلال وأجهزة الأمن الفلسطينية القاسية لنشطاء حماس والجهاد الإسلامي جعلت الكثيرات منهن يتلمسن خطواتهن، خوفاً من ملاحقة حتمية".
اقرأ أيضاً: مرابطات الأقصى.. مقاومة لا يكسرها الإبعاد
اقرأ أيضاً: الكف يناطح المخرز.. الفلسطينيون عود على بدء