يؤكد المحلل المالي ورئيس مركز الأبحاث في أحد المصارف اللبنانية، نسيب غبريل، أن الأزمة الاقتصادية ولدت من بنيته الذاتية التي تعاني من خلل يطرد الاستثمارويقول في مقابلة لـ "العربي الجديد": إن خسائر الاقتصاد بلغت 25 مليار دولار منذ العام 2011، وهنا نص المقابلة:
* مضى العام 2015 وكل مؤشرات الاقتصاد اللبناني تؤكد أنه أصبح في قعر الهوّة، فهل الانتخابات وتعيين رئيس للجمهورية كاف لتغيير الواقع المأزوم؟
يمكن القول إن 2015 هي سنة إضافية من الفرص الضائعة المستمرة منذ العام 2011. النمو سيسجل في نهاية هذا العام ما لا يزيد عن 1% بأفضل الأحوال، ما يكمل المنحى المأزوم السائد منذ أربع سنوات.
في الواقع، نحن نرمي كل شيء على الأوضاع الأمنية والسياسية، ولكن يوجد عامل أساسي يتم تغييبه وهو الخلل البنيوي في الاقتصاد اللبناني، حيث نلحظ ترهّل البنى التحتية من كهرباء واتصالات وطرقات وغيرها، ما يزيد من الأعباء على المؤسسات والمواطنين. وكلفة هذا الخلل ليست بسيطة، فمداخيل أصحاب المولّدات الخاصة تصل إلى 1.7 مليار دولار، في حين تنفق الحكومة حوالي ملياري دولار على مؤسسة الكهرباء، ما يعني أكثر من 3.7 مليارات دولار يدفعها الناس كما القطاع الخاص، من دون الحصول على كهرباء منتظمة. من جهة أخرى، تأتي رداءة قطاع الاتصالات مع كلفة مرتفعة جداً على المواطن والمؤسسات في مقابل تنافسية بمستويات تعتبر من الأدنى عالمياً. وكذلك، نرى تدهور وضع الطرقات وأيضاً لدينا الروتين الإداري في القطاع العام والفساد والمعاملات التي لا تنتهي، وكلفتها المرتفعة.
وفوق كل ذلك، يتم فرض الضرائب غير المدروسة لتغطية وتمويل هذا العبء، بالتزامن مع عدم وجود إرادة لتطبيق الإصلاحات، والنتيجة عجز متواصل في الموازنة.
في عام 2014 تراجعت نسبة العجز إلى 6.2% من الناتج المحلي بسبب تحويل وزير الاتصالات لمداخيل كانت مكدسة لعدة سنوات، إلى الخزينة. ولكن هذا العام لا توجد تحويلات كهذه، وكذلك يوجد تراجع في الواردات الضريبية، وبالتالي ستزيد نسب العجز وكذلك التباطؤ الاقتصادي. وباختصار، لو كانت بنية الاقتصاد اللبناني قائمة على أسس صلبة وصحيحة لكانت استوعبت الخضات التي تصيب البلد سياسياً وأمنياً.
* ما هي الكلفة الإجمالية لهذا الخلل التراكمي في البنية الاقتصادية اللبنانية، وهل فعلاً أظهر الاقتصاد صلابة أمام الأزمات كما يسوّق البعض؟
بداية لا بد من التأكيد على المراحل التي مر بها النمو، فقد تراجع من 9.2% سنوياً بين 2007 و2010 إلى 1.3% سنوياً بين 2011 و2015، ويمكن رصد الخسائر الناتجة عن هذا التراجع، والمقدّرة بحوالي 25 مليار دولار. وبالتالي، الاقتصاد اللبناني ليس صامداً، هذا تسويق مضلّل، وأمام الخلل البنيوي والخضات، يوجد ثمن باهظ دفعه لبنان.
فقد كان البلد يعيش في مناخ شبه مثالي لتطبيق الإصلاحات منذ اتفاق الدوحة في 2008 وعام 2010، حينها ارتفعت ثقة المستهلك والاستثمارات تدفقت إلى لبنان بشكل غير مسبوق، والموسم السياحي كان ممتازاً والأفضل في تاريخ لبنان. وكان يوجد استقرار أمني وسياسي نسبي، والمؤسسات الدستورية كانت تعمل، وكان هناك مناخ إقليمي وعالمي مريح على الصعيد المحلي... ولكن الطبقة السياسية كانت مشغولة بالمناكفات، وارتفعت حدة الخطاب السياسي وتم تحريك الشارع. هذه أول خضة أدت إلى تراجع الثقة وانحدار الاستثمارات والاقتصاد. وقد حصلت هذه الخضة قبل الثورة السورية.
لو كان لدينا الاستقرار كنا استفدنا من السياحة الأوروبية التي كان يمكنها القدوم إلى لبنان، ومن رؤوس الأموال الخاصة التي لم تأتِ إلى المصارف اللبنانية بل ذهبت إلى سويسرا وبريطانيا والولايات المتحدة، في حين أن الشركات الكبيرة والدولية التي كانت تبحث عن مكان هادئ لم تجد لبنان على الخارطة، بسبب وهن البنى التحتية وغياب الاتصالات والكهرباء وغيرها.
وبعدما بدأت التظاهرات في سورية، وبدلاً من أن نحيّد أنفسنا، انقسم السياسيون واستوردوا الأزمة إلى لبنان، وتم ضرب القطاع السياحي، وتوقفت الحدود البرية، وانخفضت الصادرات وارتفعت حدة المخاطر الأمنية.
* ألا تجد أن الأزمة تنطلق من الأحزاب السياسية المسيطرة على السلطة والتي ترث نفسها منذ سنوات وتعيد جدولة الأزمة الاقتصادية بما يزيد من منافعها الخاصة؟
يوجد استهتار، ولا يوجد وعي من قبل معظم من هم في السلطة السياسية، بحيث يتم استبعاد الهموم الاقتصادية والمالية والاجتماعية من قائمة الأولويات، ما ينعكس على تراجع تنافسية الاقتصاد اللبناني بشكل منتظم. مثلاً، لبنان في المرتبة 13 بين 15 بلداً عربياً في مؤشر التنافسية، وهذا غير مقبول. لبنان بلا رئيس منذ حوالي السنة ونصف السنة، ويوجد نواب لا يذهبون إلى البرلمان. في المؤسسات إذا غبنا شهراً عن عملنا يتم صرفنا، ولكن هناك لا يوجد محاسبة. الناس يجب أن تحاسب المسؤولين وكذلك القطاع الخاص.
* يقودنا هذا الموضوع إلى تجمع الهيئات الاقتصادية، فالأخير لا يقوم بأي ضغط فعلي على السلطة، لا بل هو جزء منها ويتخذ مواقف سياسية لصالح طرف ضد آخر، ما رأيك؟
الهيئات تحكي ولا تفعل، توجد بيانات ولكن لا توجد آلية ضغط فعلية، في حين أنه على القطاع الخاص أن يحاسب من يقصّر من السياسيين. صحيح أنه يوجد ناس في الهيئات الاقتصادية يطمحون للنيابة والوزارة ولكن ليس كلهم، ويوجد العديد من ممثلي القطاعات يطرحون القضايا كما هي. نحن بحاجة إلى خضة سياسية إيجابية مثل اتفاق الدوحة لكي ترتفع ثقة المستهلك.
ولكن هذا ليس كافياً، ففي حال الاتفاق على رئيس وعلى حكومة وبرلمان يجب أن نقوم بإصلاحات بنيوية على الاقتصاد. ما يتم الحديث عنه اليوم من حلول، سيعيد الطبقة السياسية نفسها إلى السلطة، وإذا لم تطبّق الإصلاحات فستكون تأثيرات الخضة الإيجابية محدودة.
* من منطلق المحاسبة، وكونك جزءاً من القطاع الخاص، هل تعتقد أنه توجد مصلحة لدى أحزاب السلطة لتطبيق الإصلاحات؟ وألا تجد أنه حتى الخصخصة ستعيد توزيع حصص القطاع العام بين الأحزاب ذاتها التي تسيطر على مرافق هذا القطاع؟
ليس كل من في السلطة لا يريد الإصلاحات، ولكن المستفيد من الوضع الاقتصادي الحالي هو كذلك. المؤسف أننا لا نلحظ أن السياسيين يتحدثون عن الأزمة الاقتصادية وآليات الخروج منها. وأزمة النفايات تلخّص موضوع الإهمال. وهناك من تحدث عن انهيار الليرة اللبنانية، وسألَنا عددٌ من السياسيين عن وضع العملة لا لخوفهم على التبعات الاقتصادية وإنما ليعرفوا ما مصير أموالهم الخاصة.
إذا بقي المواطن يصفّق لحزبه سنبقى على وضعنا السيئ. يجب أن تكون هناك محاسبة وتحركات ضاغطة لكي يعرف السياسي أن المواطن قادر على التأثير، ويأخذ برأيه وحاجاته بجدية والتزام. توجد طبقة سياسية لا تأخذ بالاعتبار رأي الناس وحاجاتهم بشكل لا يصدق. فلتنزل الأوراق البيضاء في الانتخابات ليظهر من ليس مع أحد أنه قوة ضاغطة. إن صندوق الاقتراع هو طريق المحاسبة.
أما في ما يتعلق بالخصخصة والمحاصصة، فإن احتكار القطاع العام للموارد بسبب الفساد وعدم المحاسبة والمحاصصة أدى إلى حرماننا من الكهرباء لـ25 عاماً بعد الحرب. واستبدال احتكار الدولة للقطاعات باحتكار القطاع الخاص هو ليس خصخصة، وبالتالي البداية يجب أن تكون الشراكة، ويجب أن يكون هناك دور لهيئات رقابية لديها سلطات مستقلة.
* أصدرتم مؤشر القطاع العقاري الذي أظهر تراجعاً في الطلب في لبنان بنسبة 63%، واتهمت نقابات أصحاب الشركات العقارية المؤشر بعدم الدقة، ما تعليقك؟
القطاع العقاري في لبنان يعاني من الأزمة الاقتصادية، فهو ليس على جزيرة معزولة.
لدينا جمود اقتصادي فعلي، والعاملون في العقارات يعترفون بتراجع الطلب. إذ يشكل هذا القطاع 14% من الناتج المحلي، وهو أكبر من حجم التجارة بالجملة والتجزئة، كما يؤثر على قطاعات أخرى رديفة، ومن جهة أخرى هو الاستثمار الأكثر أماناً وفق الثقافة السائدة.
ولكن لا توجد مؤشرات لها مصداقية تعكس الحركة في هذا القطاع. فإحصاءات عدد رخص البناء ومساحتها تعكس النية بالبناء، ومبيعات الإسمنت لا تشير إلى أي قطاعات تذهب. والمعاملات العقارية غير مفصّلة، وبالتالي قرّرنا، لرفع شفافية القطاع العقاري، أن نصدر هذا المؤشر الذي يعكس الطلب على الوحدات السكنية. والنتائج عكست الواقع الذي يعرفه الكل في لبنان. استخدمنا طريقة علمية واعتمدنا على عيّنة من 1200 شخص يعكسون التوزيع السكاني في لبنان، وسألناهم في مقابلات وجاهية ما إذا كانت لديهم نية لشراء بيت أو بناء بيت لهم، منذ تموز/ يوليو 2007، ما يعني لدينا 99 شهراً من المعلومات. ومن لديه شيء أفضل فليقدمه للنقاش بدل ردة الفعل المضحكة. من 2008 إلى 2010 ارتفع الطلب على المنازل ووصل المؤشر لأعلى مستوى في 2010. وبدأ ينخفض بعد العام 2010 لعدة أسباب. وتبيّن أنه في الأشهر التسعة الأولى من 2015 تم تسجيل المعدل الأكبر في الانخفاض بنسبة تراجع على الطلب وصلت إلى 63%.
توجد دعايات تقول إن أسعار العقارات لا تنخفض في لبنان، ولكن إذا كانت توجد زيادة في العرض وتراجع في الطلب يجب أن تنخفض الأسعار. وسبب أساسي لتراجع الطلب هو ارتفاع الأسعار بين 2007 و2010 بسبب الطفرة العقارية التي أدت إلى دخول الهواة إلى السوق، ما رفع الأسعار بسبب توقعات غير واقعية. وتوجد نظرية الدرج حيث إن الأسعار ترتفع ولا تنخفض، وهي أيضاً وهم. اليوم السوق اللبنانية لصالح المشتري. على الناس أن تفاوض لتخفض الأسعار، ومن لا يخفض الأسعار لن يبيع.
أما "الكليشيه" الثالث، فمفاده أنه "إذا انتخبنا رئيساً للجمهورية سترتفع الأسعار"، وهذا ليس منطقياً. الرابع يقول: "غداً يأتي البترول والغاز، وترتفع الأسعار"، ومن يقول ذلك يعيش في الأوهام. لدينا أزمات معيشية ومؤسساتية. السيولة لدى الناس يتم وضعها في المصرف لا إنفاقها على العقار إلا وفق الحاجة القصوى، ولولا المؤسسة العامة للإسكان وتحفيزات مصرف لبنان لكان المؤشر ليكون أكثر تراجعاً.
على هامش المقابلة:
"النفط هو سمك في البحر لا أكثر". هذا ما يقوله الخبير الاقتصادي والمالي نسيب غبريل، لـ"العربي الجديد"، ويشرح أن "أسعار النفط الذي نستورده، انخفضت 55% من حزيران/ يونيو 2014، حيث استفادت الدولة من تراجع تحويلات الخزينة إلى كهرباء لبنان، التي انخفضت في الأشهر التسعة الأولى من 2015 بحوالي 35%. من جهة أخرى، استفاد الناس من تراجع أسعار المحروقات، ما أدى إلى رفع دخل الأسر، وسمح للمواطنين الإنفاق على أمور حيوية أخرى. ولكننا لم نستفد من هذه الفرصة، حيث لم تعمل الدولة على أي إصلاح في قطاع الكهرباء، علماً أن الفرصة لا تزال متاحة في العام المقبل".
أما بالنسبة إلى مخزونات الغاز والنفط في الحدود البحرية اللبنانية، فيتم التعامل معها بطريقة غريبة، وفق غبريل. إضافة إلى عدم الاتفاق على عملية البدء بالتنقيب، "خرجت حملات إعلانية حددت آليات صرف مداخيل البترول على التعليم والاتصالات والبنى التحتية... من دون أن تخرج نقطة واحدة من النفط والغاز من بحرنا".
ويضيف: "توجد معاناة فعلية مع أحلام اليقظة، علينا أن نعرف الكميات المتوافرة وأين تتواجد وكلفة الاستخراج وكلفة المبيع. الآن يوجد فائض في الغاز والبترول عالمياً، والأسعار تنخفض، وبالتالي لا يجب أن نعيش في الأحلام ولا نقوم بالإصلاحات على أساس أننا سنحصل على المليارات قريباً".
بطاقة تعريف:
نسيب غبريل، هو كبير الاقتصاديين ومدير قسم البحوث في بنك بيبلوس. حائز على جائزة أفضل خبير اقتصادي في لبنان، في 2009. حاصل على بكالوريوس الآداب في الدراسات السياسية والاقتصادية من الجامعة الأميركية، وماجستير العلاقات الدولية، وماجستير في الإدارة الدولية.
اقرأ أيضاً:عامر خياط: الفساد المالي أنهك الاقتصادات العربية
يمكن القول إن 2015 هي سنة إضافية من الفرص الضائعة المستمرة منذ العام 2011. النمو سيسجل في نهاية هذا العام ما لا يزيد عن 1% بأفضل الأحوال، ما يكمل المنحى المأزوم السائد منذ أربع سنوات.
في الواقع، نحن نرمي كل شيء على الأوضاع الأمنية والسياسية، ولكن يوجد عامل أساسي يتم تغييبه وهو الخلل البنيوي في الاقتصاد اللبناني، حيث نلحظ ترهّل البنى التحتية من كهرباء واتصالات وطرقات وغيرها، ما يزيد من الأعباء على المؤسسات والمواطنين. وكلفة هذا الخلل ليست بسيطة، فمداخيل أصحاب المولّدات الخاصة تصل إلى 1.7 مليار دولار، في حين تنفق الحكومة حوالي ملياري دولار على مؤسسة الكهرباء، ما يعني أكثر من 3.7 مليارات دولار يدفعها الناس كما القطاع الخاص، من دون الحصول على كهرباء منتظمة. من جهة أخرى، تأتي رداءة قطاع الاتصالات مع كلفة مرتفعة جداً على المواطن والمؤسسات في مقابل تنافسية بمستويات تعتبر من الأدنى عالمياً. وكذلك، نرى تدهور وضع الطرقات وأيضاً لدينا الروتين الإداري في القطاع العام والفساد والمعاملات التي لا تنتهي، وكلفتها المرتفعة.
وفوق كل ذلك، يتم فرض الضرائب غير المدروسة لتغطية وتمويل هذا العبء، بالتزامن مع عدم وجود إرادة لتطبيق الإصلاحات، والنتيجة عجز متواصل في الموازنة.
في عام 2014 تراجعت نسبة العجز إلى 6.2% من الناتج المحلي بسبب تحويل وزير الاتصالات لمداخيل كانت مكدسة لعدة سنوات، إلى الخزينة. ولكن هذا العام لا توجد تحويلات كهذه، وكذلك يوجد تراجع في الواردات الضريبية، وبالتالي ستزيد نسب العجز وكذلك التباطؤ الاقتصادي. وباختصار، لو كانت بنية الاقتصاد اللبناني قائمة على أسس صلبة وصحيحة لكانت استوعبت الخضات التي تصيب البلد سياسياً وأمنياً.
* ما هي الكلفة الإجمالية لهذا الخلل التراكمي في البنية الاقتصادية اللبنانية، وهل فعلاً أظهر الاقتصاد صلابة أمام الأزمات كما يسوّق البعض؟
بداية لا بد من التأكيد على المراحل التي مر بها النمو، فقد تراجع من 9.2% سنوياً بين 2007 و2010 إلى 1.3% سنوياً بين 2011 و2015، ويمكن رصد الخسائر الناتجة عن هذا التراجع، والمقدّرة بحوالي 25 مليار دولار. وبالتالي، الاقتصاد اللبناني ليس صامداً، هذا تسويق مضلّل، وأمام الخلل البنيوي والخضات، يوجد ثمن باهظ دفعه لبنان.
فقد كان البلد يعيش في مناخ شبه مثالي لتطبيق الإصلاحات منذ اتفاق الدوحة في 2008 وعام 2010، حينها ارتفعت ثقة المستهلك والاستثمارات تدفقت إلى لبنان بشكل غير مسبوق، والموسم السياحي كان ممتازاً والأفضل في تاريخ لبنان. وكان يوجد استقرار أمني وسياسي نسبي، والمؤسسات الدستورية كانت تعمل، وكان هناك مناخ إقليمي وعالمي مريح على الصعيد المحلي... ولكن الطبقة السياسية كانت مشغولة بالمناكفات، وارتفعت حدة الخطاب السياسي وتم تحريك الشارع. هذه أول خضة أدت إلى تراجع الثقة وانحدار الاستثمارات والاقتصاد. وقد حصلت هذه الخضة قبل الثورة السورية.
لو كان لدينا الاستقرار كنا استفدنا من السياحة الأوروبية التي كان يمكنها القدوم إلى لبنان، ومن رؤوس الأموال الخاصة التي لم تأتِ إلى المصارف اللبنانية بل ذهبت إلى سويسرا وبريطانيا والولايات المتحدة، في حين أن الشركات الكبيرة والدولية التي كانت تبحث عن مكان هادئ لم تجد لبنان على الخارطة، بسبب وهن البنى التحتية وغياب الاتصالات والكهرباء وغيرها.
وبعدما بدأت التظاهرات في سورية، وبدلاً من أن نحيّد أنفسنا، انقسم السياسيون واستوردوا الأزمة إلى لبنان، وتم ضرب القطاع السياحي، وتوقفت الحدود البرية، وانخفضت الصادرات وارتفعت حدة المخاطر الأمنية.
* ألا تجد أن الأزمة تنطلق من الأحزاب السياسية المسيطرة على السلطة والتي ترث نفسها منذ سنوات وتعيد جدولة الأزمة الاقتصادية بما يزيد من منافعها الخاصة؟
يوجد استهتار، ولا يوجد وعي من قبل معظم من هم في السلطة السياسية، بحيث يتم استبعاد الهموم الاقتصادية والمالية والاجتماعية من قائمة الأولويات، ما ينعكس على تراجع تنافسية الاقتصاد اللبناني بشكل منتظم. مثلاً، لبنان في المرتبة 13 بين 15 بلداً عربياً في مؤشر التنافسية، وهذا غير مقبول. لبنان بلا رئيس منذ حوالي السنة ونصف السنة، ويوجد نواب لا يذهبون إلى البرلمان. في المؤسسات إذا غبنا شهراً عن عملنا يتم صرفنا، ولكن هناك لا يوجد محاسبة. الناس يجب أن تحاسب المسؤولين وكذلك القطاع الخاص.
* يقودنا هذا الموضوع إلى تجمع الهيئات الاقتصادية، فالأخير لا يقوم بأي ضغط فعلي على السلطة، لا بل هو جزء منها ويتخذ مواقف سياسية لصالح طرف ضد آخر، ما رأيك؟
الهيئات تحكي ولا تفعل، توجد بيانات ولكن لا توجد آلية ضغط فعلية، في حين أنه على القطاع الخاص أن يحاسب من يقصّر من السياسيين. صحيح أنه يوجد ناس في الهيئات الاقتصادية يطمحون للنيابة والوزارة ولكن ليس كلهم، ويوجد العديد من ممثلي القطاعات يطرحون القضايا كما هي. نحن بحاجة إلى خضة سياسية إيجابية مثل اتفاق الدوحة لكي ترتفع ثقة المستهلك.
* من منطلق المحاسبة، وكونك جزءاً من القطاع الخاص، هل تعتقد أنه توجد مصلحة لدى أحزاب السلطة لتطبيق الإصلاحات؟ وألا تجد أنه حتى الخصخصة ستعيد توزيع حصص القطاع العام بين الأحزاب ذاتها التي تسيطر على مرافق هذا القطاع؟
ليس كل من في السلطة لا يريد الإصلاحات، ولكن المستفيد من الوضع الاقتصادي الحالي هو كذلك. المؤسف أننا لا نلحظ أن السياسيين يتحدثون عن الأزمة الاقتصادية وآليات الخروج منها. وأزمة النفايات تلخّص موضوع الإهمال. وهناك من تحدث عن انهيار الليرة اللبنانية، وسألَنا عددٌ من السياسيين عن وضع العملة لا لخوفهم على التبعات الاقتصادية وإنما ليعرفوا ما مصير أموالهم الخاصة.
إذا بقي المواطن يصفّق لحزبه سنبقى على وضعنا السيئ. يجب أن تكون هناك محاسبة وتحركات ضاغطة لكي يعرف السياسي أن المواطن قادر على التأثير، ويأخذ برأيه وحاجاته بجدية والتزام. توجد طبقة سياسية لا تأخذ بالاعتبار رأي الناس وحاجاتهم بشكل لا يصدق. فلتنزل الأوراق البيضاء في الانتخابات ليظهر من ليس مع أحد أنه قوة ضاغطة. إن صندوق الاقتراع هو طريق المحاسبة.
أما في ما يتعلق بالخصخصة والمحاصصة، فإن احتكار القطاع العام للموارد بسبب الفساد وعدم المحاسبة والمحاصصة أدى إلى حرماننا من الكهرباء لـ25 عاماً بعد الحرب. واستبدال احتكار الدولة للقطاعات باحتكار القطاع الخاص هو ليس خصخصة، وبالتالي البداية يجب أن تكون الشراكة، ويجب أن يكون هناك دور لهيئات رقابية لديها سلطات مستقلة.
* أصدرتم مؤشر القطاع العقاري الذي أظهر تراجعاً في الطلب في لبنان بنسبة 63%، واتهمت نقابات أصحاب الشركات العقارية المؤشر بعدم الدقة، ما تعليقك؟
القطاع العقاري في لبنان يعاني من الأزمة الاقتصادية، فهو ليس على جزيرة معزولة.
لدينا جمود اقتصادي فعلي، والعاملون في العقارات يعترفون بتراجع الطلب. إذ يشكل هذا القطاع 14% من الناتج المحلي، وهو أكبر من حجم التجارة بالجملة والتجزئة، كما يؤثر على قطاعات أخرى رديفة، ومن جهة أخرى هو الاستثمار الأكثر أماناً وفق الثقافة السائدة.
ولكن لا توجد مؤشرات لها مصداقية تعكس الحركة في هذا القطاع. فإحصاءات عدد رخص البناء ومساحتها تعكس النية بالبناء، ومبيعات الإسمنت لا تشير إلى أي قطاعات تذهب. والمعاملات العقارية غير مفصّلة، وبالتالي قرّرنا، لرفع شفافية القطاع العقاري، أن نصدر هذا المؤشر الذي يعكس الطلب على الوحدات السكنية. والنتائج عكست الواقع الذي يعرفه الكل في لبنان. استخدمنا طريقة علمية واعتمدنا على عيّنة من 1200 شخص يعكسون التوزيع السكاني في لبنان، وسألناهم في مقابلات وجاهية ما إذا كانت لديهم نية لشراء بيت أو بناء بيت لهم، منذ تموز/ يوليو 2007، ما يعني لدينا 99 شهراً من المعلومات. ومن لديه شيء أفضل فليقدمه للنقاش بدل ردة الفعل المضحكة. من 2008 إلى 2010 ارتفع الطلب على المنازل ووصل المؤشر لأعلى مستوى في 2010. وبدأ ينخفض بعد العام 2010 لعدة أسباب. وتبيّن أنه في الأشهر التسعة الأولى من 2015 تم تسجيل المعدل الأكبر في الانخفاض بنسبة تراجع على الطلب وصلت إلى 63%.
توجد دعايات تقول إن أسعار العقارات لا تنخفض في لبنان، ولكن إذا كانت توجد زيادة في العرض وتراجع في الطلب يجب أن تنخفض الأسعار. وسبب أساسي لتراجع الطلب هو ارتفاع الأسعار بين 2007 و2010 بسبب الطفرة العقارية التي أدت إلى دخول الهواة إلى السوق، ما رفع الأسعار بسبب توقعات غير واقعية. وتوجد نظرية الدرج حيث إن الأسعار ترتفع ولا تنخفض، وهي أيضاً وهم. اليوم السوق اللبنانية لصالح المشتري. على الناس أن تفاوض لتخفض الأسعار، ومن لا يخفض الأسعار لن يبيع.
أما "الكليشيه" الثالث، فمفاده أنه "إذا انتخبنا رئيساً للجمهورية سترتفع الأسعار"، وهذا ليس منطقياً. الرابع يقول: "غداً يأتي البترول والغاز، وترتفع الأسعار"، ومن يقول ذلك يعيش في الأوهام. لدينا أزمات معيشية ومؤسساتية. السيولة لدى الناس يتم وضعها في المصرف لا إنفاقها على العقار إلا وفق الحاجة القصوى، ولولا المؤسسة العامة للإسكان وتحفيزات مصرف لبنان لكان المؤشر ليكون أكثر تراجعاً.
على هامش المقابلة:
"النفط هو سمك في البحر لا أكثر". هذا ما يقوله الخبير الاقتصادي والمالي نسيب غبريل، لـ"العربي الجديد"، ويشرح أن "أسعار النفط الذي نستورده، انخفضت 55% من حزيران/ يونيو 2014، حيث استفادت الدولة من تراجع تحويلات الخزينة إلى كهرباء لبنان، التي انخفضت في الأشهر التسعة الأولى من 2015 بحوالي 35%. من جهة أخرى، استفاد الناس من تراجع أسعار المحروقات، ما أدى إلى رفع دخل الأسر، وسمح للمواطنين الإنفاق على أمور حيوية أخرى. ولكننا لم نستفد من هذه الفرصة، حيث لم تعمل الدولة على أي إصلاح في قطاع الكهرباء، علماً أن الفرصة لا تزال متاحة في العام المقبل".
أما بالنسبة إلى مخزونات الغاز والنفط في الحدود البحرية اللبنانية، فيتم التعامل معها بطريقة غريبة، وفق غبريل. إضافة إلى عدم الاتفاق على عملية البدء بالتنقيب، "خرجت حملات إعلانية حددت آليات صرف مداخيل البترول على التعليم والاتصالات والبنى التحتية... من دون أن تخرج نقطة واحدة من النفط والغاز من بحرنا".
ويضيف: "توجد معاناة فعلية مع أحلام اليقظة، علينا أن نعرف الكميات المتوافرة وأين تتواجد وكلفة الاستخراج وكلفة المبيع. الآن يوجد فائض في الغاز والبترول عالمياً، والأسعار تنخفض، وبالتالي لا يجب أن نعيش في الأحلام ولا نقوم بالإصلاحات على أساس أننا سنحصل على المليارات قريباً".
بطاقة تعريف:
نسيب غبريل، هو كبير الاقتصاديين ومدير قسم البحوث في بنك بيبلوس. حائز على جائزة أفضل خبير اقتصادي في لبنان، في 2009. حاصل على بكالوريوس الآداب في الدراسات السياسية والاقتصادية من الجامعة الأميركية، وماجستير العلاقات الدولية، وماجستير في الإدارة الدولية.
اقرأ أيضاً:عامر خياط: الفساد المالي أنهك الاقتصادات العربية