بينما كان المستشار محمود شاكر الرشيدي يتلو حكم براءة الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، وولديه، ووزير داخليته حبيب العادلي، ومساعديه، من التهم المنسوبة إليهم، كانت صورة واحدة تتشكل، بالتدريج، أمام عينيَّ؛ حتى فاضت على الرؤية، ولم أعد أرى سواها: قطار الصعيد المحترق، عام 2002، بالتحديد، جثة متفحمة لأحد الركاب، حاول الهرب من جحيم الحريق، عن طريق القفز من أحد شبابيك القطار؛ فذاب لحمه، وامتزج بحديد القطار المنصهر، والتصق به؛ فصار هو والقطار جزء واحدًا.
لم يكن أحد المنتمين للثورة يتخيل مشهدًا يُجسِّد انهزام حلم يناير أكثر بشاعة من هذا: مبارك في مداخلة هاتفية مع إحدى القنوات، يسخر مما حدث في يناير، ويقول ضاحكاً: "ده كان عينك ما تشوف إلا النور".. حبيب العادلي يلتقط صورة بصحبة أحد الضباط، سعيداً، مبتسماً للكاميرا، بعد حكم براءته من تهمة قتل المتظاهرين.
نعم، في اللحظة التي تكلَّم فيها مبارك ساخرًا مما جرى في يناير، تم إعلان هزيمة هذه الموجة من الثورة، بلا مواربة. هذه هي الحقيقة الأولى التي يجب أن نتفق عليها، وأن ندركها جيدًا، قبل أن ننخرط في أي حديث آخر. كان مبارك هو الشخص والرمز الأول الذي ثارت ضده الجماهير في يناير/كانون الثاني 2011، وإعلان براءته من تهم القتل والفساد هو إعلان انهزام يناير.. إذا كان مبارك بريئا من كل هذا، فلماذا خرج الناس ضده أساساً؟!
عزيزي الذي كنت جزءا من حلم يناير، بكل ما يمثله من أحلام بالحرية والعدل والمساواة، مشاركًا على الأرض، أو داعمًا له بما استطعت، حتى لو اكتفيت بأضعف الإيمان، ودعمته بقلبك فقط:
دعني أصارحك بأنك الوحيد الذي أهتم بأن أخاطبه الآن؛ فنحن زملاء في جيش واحد.. أعتقد أنك ستصدقني عندما أقول لك بأني أشاركك ما تحس، نفس الخيبة هنا، مرارة الانكسار واحدة.
والآن، لكَ بعض النصائح، التي أذكر نفسي بها وأنا أكتبها، أوجهها لنفسي قبل أن أوجهها لك:
أولًا: لا داعي للأفعال الهيستيرية الآن.. إذا تركت نفسك فريسة للهيستيريا، ستجعل حياتك عُرضة للخطر، دون ثمن سوى إرضاء نزعاتك الهيستيرية الآنية، وتؤذينا معك. تذكر أننا لسنا الأغلبية، لسنا أكثرية؛ حتى نضحي بحياة أو حرية أي فرد منّا، بثمن بخس.. تذكر دائماً أن من سيخرج رابحًا، حقًا، من هذه المحنة، هو من سيظل محتفظاً ببعض توازنه النفسي وثباته الإنفعالي.
ثانيًا: إياكَ أن تنس أننا في مصر، البلد الذي يُعتبَر تزوير التاريخ فيه من الممارسات المحببة للحكام، منذ فجر التاريخ.. كان لملوك الفراعنة عادة أثيرة، تتمثل في تشويه المسلات وجدران المعابد، التي اعتاد الملوك، الذين كانوا من قبلهم، أن يدوِّنوا عليها إنجازاتهم.
أغلى ما تمتلكه الآن هو دماغك، ذاكرتك.. لن يستطيع أي مستبد، مهما بلغ في طغيانه المدى، أن ينتزع منك ذاكرتك ووعيك باللحظة الراهنة، وتاريخك.
في هذا الصدد، يمكنك أن تتبع سيرة شعب فلسطين، وتتعلم منهم.. هؤلاء القوم لديهم سلاح نفيس، لا يمكن انتزاعه إلا بانتزاع الروح، اسمه الذاكرة الجماعية.. يحرصون على تناقل تاريخهم، شفويًا، بينهم وبين بعضهم البعض. وبهذا، لم يستطع الكيان الصهيوني بكل ما يمتلكه، وهو كثير، أن يطمس تاريخ فلسطين، أو يمحو تفاصيل إجرامه من صفحات التاريخ، والأهم من كتب التاريخ هي صدور البشر، التي تحفظ السجلات السوداء، لكل من أجرم؛ حتى يحين وقت القصاص. الذاكرة الحية تحفظ النار متقدة، وحتى لو كانت تحت الرماد.
حافظوا على الرماد المتقد؛ حتى يصير ناراً، نحرقهم بها، يوماً ما.
ثالثًا: لا تقلق، لن تسمع مني كلاماً لا طعم له عن حلاوة الأمل، وأنت في قاع إحباطك من كل شيء. بل دعني أصارحك بأني أرى أن "اليأس أمانة"، بل أزيدك من الشعر بيتًا، بأن تجدني أنصحك بأن تتخلى عن أي أمل ما زال يعتمل في صدرك.
هذه أيام لا تحتاج فيها للأمل، لكي تستمر في نضالك ضد الظلم.. أدعوك أن تيأس، من ناحية أنه، غالباً، لا أمل أن ترى نتيجة حقيقية لنضالك على المدى القريب.. ربما، يكون هناك نتائج طيبة على المديين المتوسط والبعيد. قبل ذلك؛ سيكون الأمل عذاباً لك، وسيؤدي لنتيجة عكسية تماماً، تتمثل في إصابتك بنوبات إحباط متوالية تستهلك روحك، أو ما تبقى منها.
إذاً، ما الذي يدفعك لمواصلة ما بدأته في يناير، ويمنعك من الانعزال والتبلُّد تجاه كل ما يجري حولك؟
ليس الأمل في شيء معين، أو السعي لانتصار محدد قريب.. مواصلة النضال هنا محاولة شخصية، لكل منّا، أن ينظر في المرآة، صباحًا أو مساء، فلا يهرب من الوجه الذي سيطالعه فيها، ولا يخفض رأسه خجلاً من عار لا يدركه سوى صاحبه. ستواصل النضال؛ لأن الإنسان الجيد، هو من يفعل ذلك، لا لشيء آخر. هناك مثل أميركي، أظن أنه معبر عما أريد أن أقوله لك: "على الرجل أن يفعل ما على الرجل أن يفعله".
وتذكر ما قاله نابليون، عقب هزيمته في معركة "واترلو": "خسرنا كل شيء، إلا الشرف".
رابعًا: أنتَ ممن مسَّهم الحلم، ومن مسه الحلم مرة، لا يمكنه أن ينسى حلاوة الأحلام، وفُسحة الحرية. إذا حاولت التراجع، والنقوص عن حلمك، ربما تحيا سالم الجسد، ولكن، كن واثقاً، بأن روحك لن تسلم من الخراب، الذي سينهش فيك دون عائق أمامه.
*مصر