نصرالله بين تحدي إسرائيل وتعريض الداخل
رد حزب الله على الغارة الإسرائيلية، في القنيطرة السورية التي استهدفت ستة من كوادره وجنرالا إيرانيا من "فيلق القدس"، بقصف قافلة إسرائيلية بالصواريخ في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، ما أدى إلى وقوع قتيلين وجرحى في صفوف الجيش الإسرائيلي. ربما جاء رد الحزب مفاجئا في المكان والتوقيت لبعضهم، خصوصاً وأنه استبق بيومين كلام أمينه العام حسن نصرالله الذي فضل أن ينتظر نحو أسبوعين، قبل أن يتناول الهجوم الإسرائيلي الموجع في خطاب ألقاه في احتفال تكريم شهداء القنيطرة، بمشاركة مسؤول إيراني رفيع.
مكّن الرد في شبعا نصرالله من تحدي إسرائيل، بالقول إن حزب الله لن يحترم، من الآن وصاعداً "قواعد الاشتباك"، وأنه "إذا قتلت إسرائيل أي كادر أو شاب، سنرد في المكان والزمان وبالطريقة التي نراها مناسبة". وفي الوقت عينه، استدرك مؤكداً "إننا لا نريد الذهاب إلى الحرب"، بالتوازي مع معلومات سبقت كلامه، ونقلتها قيادة القوات الدولية في الجنوب إلى إسرائيل، مفادها بأن حزب الله يقف عند حدود الرد في مزارع شبعا، ولا يريد أي تصعيد إضافي.
وهذه على الأرجح رغبة إسرائيل التي فوجئت بمكان الرد وتوقيته، على الرغم من إدراكها أن حزب الله سيضطر للرد هذه المرة، بعكس المرات السابقة، لأكثر من سبب واعتبار، على الرغم من حساسية الموقف وتعقيدات الوضع الإقليمي. فهو، أولا، لم يرد على اغتيال قائده العسكري الأهم، عماد مغنية، قبل ست سنوات (12 فبراير/شباط 2008)، على الرغم من اتهامه إسرائيل بالجريمة، علماً أن العملية تمت على الأراضي السورية، وعلى بعد مئات الأمتار من مركز استخبارات النظام السوري. كما أنه لم يرد على اغتيال كادر مهم وخبير متفجرات، حسان اللقيس، قبل سنة (4 ديسمبر/كانون الأول 2013)، في محيط الضاحية الجنوبية من بيروت، معقل حزب الله الذي اتهم، أيضاً، إسرائيل بعملية الاغتيال.
وثانياً، لأن غارة القنيطرة حصدت ستة كوادر بضربة واحدة، بينهم أبو عيسى، قائد "وحدة العمليات الخاصة"، وجهاد نجل عماد مغنية، الشاب والطالب الجامعي، الذي بعكس ما أشيع لم يكن له أي دور محدد، ولم يكن مكلفاً بأي مهمة، وإنما كان في زيارة استطلاعية. وسقوطه في تلك الغارة شكل صدمة عاطفية ودافعاً إضافياً للانتقام.
وثالثاً، وهذا هو ربما السبب الأهم، الرد على تحدي إسرائيل إيران باغتيال أحد جنرالاتها من "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني، والذي، على الأرجح، كان يجب أن يبقى وجوده في الجولان السوري سرياً. وقد كشف وقوع هذه المجموعة من كوادر حزب الله، يتوسطها الضابط الإيراني الكبير، في شرك إسرائيل، انخراط طهران، رسمياً وعملياً، في خطط تذهب إلى أبعد من القتال إلى جانب بشار الأسد والدفاع عن نظامه، والسعي إلى تعزيز نفوذها على خط التماس المباشر مع إسرائيل، من خلال إشعال جبهة توتر جديدة عبر توريط حزب الله فيها.
ورابعاً، لأن حزب الله كان في حاجة إلى شد عصب جمهوره، واستيعاب التململ المتزايد في مناطق نفوذه، نتيجة تصاعد عدد القتلى، شبه اليومي، في صفوف مقاتليه الذين يسقطون دفاعاَ عن النظام السوري. ناهيك عن الخلاف الكبير والعميق، السياسي والمذهبي، مع قسم كبير من اللبنانيين بسبب تورطه في الحرب السورية، وجر نارها إلى الداخل اللبناني. ولهذا السبب، وبهدف تخفيف الضغط الداخلي والاحتقان المذهبي، تخلى عملياً عن شروطه، وشارك، منذ سنة، في الحكومة الحالية التي يرأسها تمام سلام المحسوب على قوى 14 آذار.
وإذا كانت هذه الأسباب وغيرها تفرض الانتقام، فإن المشكلة بقيت في كيف، ومن أين الرد؟
كان اللبنانيون يأملون أن يتم تجنيب البلد مواجهة جديدة، وألا يحصل ذلك من الأراضي اللبنانية، لأن حزب الله تعرض لهجوم خارج لبنان. وربما إن الحزب نفسه كان يفضل ذلك، غير أن الخيارات كانت محدودة، لا بل شبه معدومة. إذ لم يكن ممكناً الرد من القنيطرة نفسها ومرتفعات الجولان، لأن النظام السوري نفسه الذي يدافع عنه ويحميه ملالي إيران وميليشيا
نصرالله، هو أول من يرفض ذلك، لأنه لا يريد التورط في مواجهة مع إسرائيل، وهو أمر لم يشأ أن يفعله منذ نحو خمسة وأربعين عاماً. وبالتالي، فإن حزب الله غير ذي صفة تخوله القيام بعمل ما، بالأخص عسكريا، من أراضي الغير. كما أنه من غير الوارد الرد من أي مكان آخر، أو استهداف المصالح الإسرائيلية في الخارج، لأن ذلك سيعرض مصالح إيران نفسها للخطر، ويهدد تحديداً المفاوضات حول ملفها النووي مع الولايات المتحدة. وهذا غير مسموح لحزب الله أن يفعله، على الرغم من أن نصرالله حاول، في كلامه، أن ينفي أي علاقة لإيران وللمفاوضات النووية بما يجري في لبنان والمنطقة، ولا حتى بالرد الذي قام به الحزب على قافلة إسرائيلية في مزارع شبعا اللبنانية، غير أن التكذيب جاءه سريعاً من قائد الحرس الثوري الإيراني، محمد علي جعفري، الذي أعلن، من طهران، أن عملية حزب الله في شبعا تشكل، أيضاً، رداً من إيران على إسرائيل. وعكس كلام جعفري، في الوقت عينه، عدم استعداد بلاده للتصعيد، أو الذهاب إلى أبعد من ذلك، على الرغم من أنه كان قد توعد إسرائيل فوراً، بعد غارة القنيطرة بـ "صاعقة مدمرة".
لم يكن، إذاً، من خيار أمام حزب الله غير التحرك في مزارع شبعا، مستفيداً من كونها ما زالت تحت الاحتلال الإسرائيلي، ومن اعتبار أن من حقه مقاومة الاحتلال، من دون أن يسبب ذلك برأيه أي مضاعفات إقليمية، من شأنها أن تورط إيران، أو أن تشعل حتى مواجهة مع إسرائيل. وهذا ما يحرص الجانبان على تجنبه.
ولكن، أدى هذا الخيار "الاضطراري" إلى كشف حزب الله داخلياً، فقد ثارت في وجهه عاصفة من الانتقادات، بحجة أنه خاطر بتوريط لبنان في حرب جديدة، وتفرد بقرار الهجوم وتصرف باعتباره طرفاً خارج الدولة، وغير ملتزم بقراراتها، على الرغم من كونه مشاركاً في حكومة وحدة وطنية، تضم معظم القوى السياسية. وذهب بعضهم إلى حد اتهامه بالمناورة والابتزاز، عبر فتحه حواراً، لأول مرة منذ سنوات، مع "تيار المستقبل" الذي يتزعمه سعد الحريري. وهو حوار انطلق، منذ أسابيع، بهدف تنفيس الاحتقان الداخلي (السني-الشيعي تحديداً) وحول ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية الشاغر منذ ثمانية أشهر. وهو يرفض، حتى الآن، الغوص في موضوع الرئاسة، متمسكا بترشيح حليفه ميشال عون، كما أنه يرفض البحث في مسألة السلاح خارج إمرة الدولة، وكذلك في تورطه في القتال دفاعاً عن الأسد، وحتى إنه يرفض إزالة المظاهر والشعارات الحزبية في مناطق نفوذه، كما تم الاتفاق عليها في لقاءات الحوار الثنائية.
فعلى ماذا، إذن، يحاور، أم إنه يريد استعمال الحوار غطاء لتمرير أمور أخرى، وتعريض لبنان لمغامرة جديدة، كما فعل في حرب يوليو/تموز 2006؟