نافحَ نصر أبو زيد عن تاريخيّة سُلطة النص الديني وَكان في مُنافحته جريئاً، وتفانى في نزع الأسطرة عن خطاباتٍ، أبانَ أنَّها من صُنع الثقافة، ينتجها البشر استجابةً لظروفهم الموضوعية، وإنْ عَدّها الجمهورُ متعالية.
وأكَّد أنَّ تلك الخطابات - التي رُفعت إلى مصافِ القداسة- لا تتطابق مع قيم الحداثة، بل تُعبِّر عن زَمنها وما خالجه من الصراعات والنقاشات الإيديولوجية، يصنعها التاريخ ويُغذّيها الاقتصاد، فلا حَرَجَ في إبعادها ما دامت غير مُلزمة، ولا تعْكِسُ إلا زمَنَها والدوائرَ التأويلية للفاعلين الاجتماعيين فيها.
كما دافع عن الطبيعة المجازية للقرآن وَأبنيتهِ القصصية- الأسطورية (بالمعنى الأنثروبولوجي لمصطلح الأسطورة عند كلود ليفي شتراوس) التي تتعددُ فيها الدلالات فَتَحتمِل الأوجه والقراءات، وأثنى على التفسير العقلي عند المعتزلة والتأويل الرمزي عند ابن عَربي وفيهما اقتدار على معانقة المطلق، بعيداً عن تصارع الأهواء وتنازُع الملل. وقد دافع في دراساته هذه عن المجاز إظهاراً للتنزيه ودفعاً للتشبيه وإرضاء للعقل الكوني الذي لا تقنعه القيود الحرفية.
كان أبو زيد يَصدُرُ عن أدوات أنتجها الفكر الألسني العالمي (ولا وجاهَةَ في اعتباره غربيًّا) مثل الدلائليَّة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، يُسلطها على نصوص التراث ويستنطقها بهِ، مُحللاً العوامل السياسية التي فَرَضت تلكَ التأويلات (السلطوية والذكورية)، وأدَّت إلى ضروب من الرجعية لا بد من تجاوزها.
إلا أنَّ النظرَ الهادئ في كتب الرجل الخِصبة - بعد مرور نصف عَقْد على وفاته- يثبت أنَّ في بعض التراث - الذي قسا عليه أحياناً- ما ينهضُ لحجَّته وأنّ جُلَّ طروحاته النقدية سبقه إليها أهلُ النظر من المعتزلة الأقدمين، وعقلانيو النهضة المتأخرون، وكلهم عملوا على تصفية العقائد مما شابها من أغراض السياسة وعوارض التاريخ وكانوا بها واعين ولإشكالاتها مدركين.
على أنَّ أغلبَ ما عدّوه عقائدَ يدخل في تفاصيل الديانة الثانوية، (مثل مسائل المرأة، ووضع غير المسلمين وسائر أحكام الفقه)، إذ أكَّد رجالات التراث أنها ظنية اجتهادية، وما قالَ أحد بقداستها ولا ربَّانيتها، كما بَيَّن علماء البلاغة وأساتيذهم من الأصوليين والمتكلمين هذا الطابع الظّني عبر مقولات الخصوص والعموم والإطلاق والتقييد والتفصيل والإجمال، فكان في اختلافهم فسحة رأي، وفي فَسيح نَظرهم مضمار للحرية والتَّخير، ما دامت الأصول- وما أقلها- محفوظَةً.
وأما اعتمادُ مناهج العلوم الإنسانية وأدواتها التحليلية فقد سَبقه إليه الرّازي مثلاً- في تفسيره- بإدراج المقولات الفلسفية (الحكمة) وابن رشد في تأويلياته، وأقرب إلينا منهما محمد عبده في توحيده ورسالاته. ولا يردُ ذلكَ إلا مَنْ كان شديدَ الحرّفية، لِقِصَرٍ في النظر أو فضلٍ في الورع. ولا ينكرُ ظنِّيَةَ الأحكام الفرعية وعدم قطيعة لعقائدِ إلا تاركو النظر وهم الأكثرون.
فِكر أبو زيد جزء من تاريخ الأفكار وهو بطبيعته ظني مثل التراث الذي ربطه بسياقه، وإضفاء القداسة على أفكاره - كإضفائها على عقائد التراث- هِنَةٌ. على أنَّ القداسة وظيفة تاريخية -إناسية يحتاجها كلُّ مجتمع ليؤنسنَ العالمَ ويرتَبط بالمطلق، والمجاز وتأويله مفاتيح ذلك كله.