زار الرحالة والمؤرخ الدمشقي نعمان قساطلي غزة في العام 1875 ضمن بعثة آثارية تتبع صندوق استكشاف فلسطين، حيث عمل مع بعثة الملازم كوندر مترجماً ولكنه استغل عمله وكتب مشاهداته في كتاب سماه "الروضة النعمانية في سياحة فلسطين وبعض البلدان الشامية".
ولد نعمان بن عبده بن يوسف بن نيقولا الكبراني الملقب بالقساطلي في دمشق أواخر عام 1854م، ودرس على الأستاذين سليم كساب الدمشقي وحنا نجم البحمدوني فمال إلى الجغرافيا والتاريخ والجدل. وعمل بالجواهر والصياغة وتسدية الحرير مثل غيره من معاصريه، وكان يختلف إلى العلاَّمتين الدكتور ميخائيل مشاقة (1800- 1888م) وتلميذه إبراهيم الحوراني (1844- 1916م) ويحضر مجالسهما فاقتبس عنهما الكثير من الآداب، وأتقن التاريخ والجغرافيا. وضع كتاباً عن تاريخ دمشق باسم "الروضة الغناء في دمشق الفيحاء"، ونشر الكثير من المقالات والدراسات في مجلات "الجنان" و"المقتطف" و"الطبيب". وصحف "الجنة" و"لسان الحال". كما نشر روايات مسلسلة أدبية في مجلة الجنان بين سنوات 1880 و1882م، تعد من بواكير فن الرواية في سورية خصوصاً، والعالم العربي عموماً.
مدينة غزة
بعد أن يجتاز مدينة الخليل وريفها يصل نعمان قساطلي ورفاقه من أعضاء البعثة الاستكشافية إلى غزة فينصبون خيامهم على بعد خمس دقائق منها لجهة الغرب في بستان به أشجار قديمة من الزيتون.
ويقول معرفاً بهذه المدينة الفلسطينية: "أما غزة فهي مركز قائمقامية بلدان ذلك السهل، وهي آخر مدن الشام، وحولها عربان من جهة الشرق والجنوب، وهي تبعد عن بحر الروم نصف ساعة لجهة الشرق، وأهلها ستة عشر ألفاً من المسلمين، وثمانمائة من المسيحيين من طائفة الروم، ولهم كنيسة ومدرسة بسيطة يعلمون فيها مبادئ اللغة العربية. والمسيحيون هم أحسن من غيرهم في أمر الترتيب وإتقان الأعمال. والمسلمون لهم جوامع كثيرة أشهرها جامع الكبير، وهو كان كنيسة بنيت في أيام الدولة الصليبية وله خمسة أبواب خارجية، وسنتكلم عنه ونضع رسمه، والثاني جامع سيدنا هاشم وموقعه في حارة الزيتون في الجانب الجنوبي الغربي من المدينة، وهو كبير وأعيد تجديده منذ نحو ثلاثين سنة، وجوامع أخرى صغيرة كثيرة لها ثلاث مسلات، فيكون مجموع المسلات أو المآذن في هذه المدينة خمساً، الأولى مئذنة الجامع الكبير، والثانية مئذنة سيدنا هاشم، والثالثة مئذنة ابن مروان، والرابعة مئذنة المحكمة، والخامسة مئذنة ابن عثمان. وأسماء هذه المآذن بأسماء جوامعها، وبها حمامات وقهاوي غير جميلة، فلا حاجة إلى ذكرها".
ويتابع قساطلي وصف غزة بقوله: "أبنية هذه المدينة أكثرها من الحجارة الرملية، وأهمها حارة النصارى، ويوجد على بعد خمس دقائق من المدينة حارة منفصلة عنها ببساتين يسمونها بحارة الشجاعية، وأكثر سكانها فلاحون وبيوتهم من اللبن كبيوت الفلاحين، ويكثرون من التراب فوق الأسقف حتى أنه في أيام الربيع يكون فوقها رعي جيد للمواشي وقد شاهدت بعض خراف ترعى فوق تلك السطوح.. وفي غزة سوق فيه من أكثر أنواع البضائع، يحتوي على مائة وخمسين دكاناً ونيف، وهو ضيق وذو تفاريع كثيرة، وبعض هذه الفروع يحتوي على نحو عشرة دكاكين صُيَّاغ، وفرع آخر يختص بالخياطين وبه نحو ثمانية دكاكين، والاثنان بجانب الجامع الكبير.. وفي هذه المدينة بالجانب الشرقي حيثما يُنْزَل إلى حارة الشجاعية قلعة للعساكر يسمونها بالديوي، وبجانبها سراي الحكومة. وفي نصف الطريق بين حارة الشجاعية والسراي مقام شمشون الجبار، يقولون إنه مدفون هناك، وأمامه تلة مرتفعة فوقها مقبرة للمسلمين يقولون إن الهيكل كان هناك، وربما كان هذا الشيء صحيحاً. وكل يوم صباحاً يصير سوق في المدينة، تأتيه نساء الفلاحين بما يرغبن في بيعه من محاصيل ودجاج وفواكه وما شاكل ذلك، وبعد الظهر يصير سوق نظيره في حارة الشجاعية".
أحوال الغزيين
وفيما يخص أحوال الناس في هذه المدينة يقول قساطلي: "أما حالة أهالي غزة فهي ليس كما كنت أظن، فإنها تأخرت جداً في المعارف والآداب وخصوصاً المسلمين، مع أنه يوجد بينهم بعض أفراد قد رشفوا طلا العلوم في جامع الأزهر في مصر، غير أنه لقلتهم لا يعتد بهم بناء على أن النادر لا يعتد به، ولا هيئة اجتماعية عند العموم".
وحول تعامل الغزيين مع النساء يقول: "من عاداتهم أن يقطعوا نصيب الإناث من كل شيء، والاحتجاب كثير جداً، فإن المرأة أو البنت وإن كانت صغيرة منهم، تلبس ثوباً أو قميصاً طويلاً من خام أو حرير بحسب الاقتدار، يسمونه شيلة، وتضع على وجهها غطاءً حريرياً أسود من أشغال دمشق الشام، يسمونه بالشنبر، وتلبس في أرجلها صرمة صفراء أو خفاً كالذي كانت تلبسه نساء دمشق من نحو أربع عشرة سنة، وبالكاد تجد امرأة خارجة للتنزه، وسبب ذلك منعهن عن ذلك من الرجال.. إلا أنه في يومين في السنة الواحد اسمه أربعة أيوب في 21 نيسان (إبريل) والثاني خميس المنطار في 22 منه يسمح لهن بالخروج إلى التنزه كما سيأتي.. وأما النصارى فهم كذلك من هذا القبيل، .. ولا يسمح لأخ بأن يدخل بيت أخيه بدون أن يعطي خبراً عند دخوله لتختبئ امرأته وبناته".
ويلفت نعمان قساطلي النظر إلى أن أغلب الرجال في غزة ذوو أصوات جميلة وألحان شجية، وقلما تسمع إنساناً منهم إلا وتجد صوته جميلاً.
وحول أزياء النساء في ذلك الوقت يقول: "وملابس النساء مشتركة؛ بين ملابس سكان المدن والفلاحين، فإن بعضهن يلبسن ثوباً، غير أنهن يلبسن تحته سروالاً.. ونساء النصارى بوجه العموم أحسن ملابس من نساء المسلمين، وكذلك يقال في الرجال، وقد يوجد كثير من بين رجال النصارى يلبسون بدلات جوخ وطرابيش مغربية، وبعض المتقدمين في السن لم يزالوا إلى الآن يتعممون بعمامة سوداء كبيرة وملابس من نوع القنباز عريضة لا كسم لها، والمسلمون يتعممون بعمامة بيضاء، والشباب بكفية وروح التفرنج حتى الآن لم تسر بينهم مطلقاً، والأهالي جميعاً مشتركون بين الجنس المصري والسوري في الهيئة، ويوجد بين الأهلين كثير من المصريين".
حارة الشجاعية
ويفرد رحالتنا فقرة خاصة لحي الشجاعية الذي يصفه بقوله: "أما حارة الشجاعية فهي قسم كبير من غزة واقع لجهة الشرق، منها على بعد خمس دقائق. وأكثر سكانه من الفلاحين، وملابسهم ثوب للنساء له أردان طويلة كأثواب العرب البدو ويتغطين ببرقعة بيضاء ويضعن على وجوههن أشياء كالبرقع عند المصريين غير أنه في أسفله حُقَّةٌ من عُملةٍ متلاصقة، ويتمنطقن بمنطقة من جلد، وبعضهن بقماش أبيض أو أزرق.. وهن قويات البنية شديدات الأجسام لهن مقدرة على أعمال الرجال، ورجالهن يشتغلون في الفلاحة بمساعدة النساء، وبعضهم يتعاطون بعض الصنائع المستعملة في غزة.
وفي هذا الحي سوق كبير ورحب به نحو مائة وخمسين دكاناً يباع بها أشياء مختلفة، ومنها نحو عشرين دكاناً للصياغ، وجانب للحدادين والنحاسين والنجارين وما شاكل ذلك. وكل يوم بعد الظهر يصير بها سوق لبيع بعض المحاصيل بعد أن ينتهي سوق المدينة".
مصنوعات ومحاصيل
أما مصنوعات غزة فهي كما يقول: "الصياغة والعبي، فإنه يوجد بها نحو مائتي نول تنسجها، وبها بعض نجارين لعمل ما يلزم للأنوال والفلاحة، وحدادون وبياطرة ونحاسون، ويشتغلون بها ملايا غزلية جميلة مخططة، وكذلك ينسجون الكتان الذي يستعمله بعض الفلاحين أثواباً، أما الصياغة والنحاسة فمن مهن النصارى الخصوصية، والنسيج فمهنة للمسلمين، وبها قليل من النصارى، وبقية النصارى يشتغلون في البناء والتجارة، ولا فلاحين بينهم مطلقاً وفيها نحو أربعين معملاً لعمل الفخار ومحلات للصياغة".
أما محاصيلها الزراعية فهي جيدة كون أراضي غزة بوجه الإجمال جيدة للغاية، ويقول إنه لو كانت تنال حظاً من الاجتهاد لأتت بمحاصيل تفوق جداً ما تأتي به الآن. ويشرح قائلاً: "يزرع فيها الحبوب والشعير والقمح والذرة الشبشوليه والكرسنة والسمسم والخروع وما شاكل ذلك، ومن أشجارها الزيتون؛ فإنه فيها كثير من أشجار الزيتون وكلها غرست من نحو خمسمائة سنة على الأقل، وفيها من شجر النخيل، والصبار يكثر بها وكذلك الجميز، فإنه موجود في أكثر بساتينها، وفيها شيء من اللوز والمشمش والرمان والتفاح والليمون والكرم.. وبعض أهلها يكثرون من زراعة الفول لحبهم بأكله، والبعض يزرعون التين والتبغ، غير أنه لا يكون جيداً، ويزرعون احتياج بلدتهم منه الكوسا، والخيار، والبندورة، وما شاكل ذلك.. وأكثر ذلك يأكلون من نتاجه في نصف نيسان لحماوة الأراضي".
وجميع مزروعاتها تأتي بمواسم جيدة لحسن التربة، وخصوصاً في الجانب الشرقي والجنوبي، وبالإجمال نقول إن أراضي غزة جيدة وحسنة التربة، وهي ذات بساتين نضرة تحيط بها من أربع جهاتها.
تجارتها
ويرى قساطلي أن "أعظم تجارات غزة في الحبوب" حيث إنها "ذات مركز حسن للغاية موافق للتجارة، إذا صادف التفاتاً، فإن العربان حولها كثر، وهي واقعة في طرف سوريا ومصر، وأراضيها تأتي بغلال يفوق بحسنه ونقله غلال حوران". "أما وارداتها فأكثرها من الشام، أي دمشق، وتأتيها عن طريق يافا، ولها تجارة في البضائع الإفرنجية، وخصوصاً في الخام لكثرة احتياج الفلاحين والعرب البدو إليه"، ويقول: "لا شك في أنه إذا تحسن ميناء هذه المدينة واجتهد أهلها في سبيل التقدم، فازت بنجاح عظيم وثروة بليغة، ولكن هيهات والأمور على ما هي عليه من التأخر والانحطاط".
مدارس غزة
ومن الأمور التي يلاحظها قساطلي أن هذه المدينة متأخرة من ناحية التعليم، وليس فيها سوى قليل من المدارس الابتدائية للمسلمين، ومدرسة لطائفة الروم كائنة ضمن دائرة كنيستها القديمة والصغيرة الكائنة في حارة النصارى، وضمنها المقبرة أيضاً.
ويشير إلى إقامة مدرسة للبروتستانت حديثاً تحت إدارة الخواجة بوتشن الإنكليزي، ومدرسة للبنات أيضاً تحت إدارة ومصروف الخواجة المذكور.
ويقول: "في مدرسة الصبيان الذكور يعلم الصرف والنحو والجغرافية والحساب وبقية العلوم العربية والرياضية، ولكن بما أنها لم تفتح إلا من نحو سنة تقريباً لم يصر تعليم بها على غير الصرف والحساب والجغرافية، ومن شروطها ألا تقبل تلميذاً بدون أن يصلح للقراءة البسيطة، وقد أتى بالخواجة المذكور مبشر من لبنان اسمه الخواجه سليمان منصور، لإذاعة التعاليم الإنجيلية، ومن فكره أن يفتح مدارس في قرى هذه البلاد إذا طلب منه ذلك.. ومدرسة البنات ساعية على قدم التحسين بنشاط معلمتها اللبنانية أيضاً واسمها غرزوزي".
عادات الأفراح
وحول عادات الأفراح في هذه المدينة، فقد لاحظ قساطلي أنها ذات عادات مختلطة يبن المدن والفلاحين، وقال إن أعظم الأفراح عندهم الأعراس والطهورات.
ويشرح قساطلي عادات الزفاف بتفصيل حيث يقول: "عندما يريد الإنسان أن يخطب ابنة ليقترن بها، تذهب بعض نساء عجائز من أقاربه ويبحثن له عن عروس، وكل بيت يدخلنه لا يظهرن مقاصدهن، بل يسترنها تحت خيال النميمة والأكاذيب، وبعد أن يجلن محلات كثيرة بأيام متتابعة، يقر قرارهن على واحدة، فيخبرن مرسلهن بصفاتها ومحاسنها وما شاكل ذلك، فيوافقهن على رأيهن بدون أن يرى خطيبته بعينيه.. وكم يصير مراعاة خواطر بهذا الأمر، لأنه من عادة النساء أن يرغين في تنفيق بضاعتهن، ولو على كيفية لا يعقبها راحة، فتعيِّر هذه المعتوهة مسلك تلك الخرفانة وبالعكس، لتتمكن كل منهما من الوصول إلى مقاصدها، قاطعات النظر عما يعقب أموراً نظير هذه من الأضرار والخصومات والأتعاب والمشاجرات، التي تجري بكثرة في غزة المدينة وخلافها، بين الرجال والنساء من قبيل هذا الأمر".
ويضيف: "بعد أن يقبل العريس بالأوصاف التي أعددتها له أولئك العجائز، فإن كان مسيحياً يرسل القس ليطلبها له رسمياً، فإذا قبل أهل العروس بذلك يقررون الشروط المقتضية، فإذا صار الاتفاق عليها ترسل خطبة العريس صحبة الخوري، ومن ثم يشرعون في تجهيز الابنة لحلول المدة المتفق عليها، وحينئذ يجرون احتفال الزفاف، وفي كل ذلك لا يستشيرون الابنة بشيء مطلقاً، وبعد أن تخطب لا يسمح لها بالخروج من البيت مطلقاً.. وإذا كانوا مسلمين يتوجه عدد من أنسباء العريس ويطلبون الابنة من أبيها، فإذا قبل يتشارطون على المهر، وبعد ذلك يكتبون الكتاب بواسطة خطيب كالعادة الجارية بخلاف المدن، وبعد أن يدفع العريس المهر المعين الذي يكون أحياناً عشرة آلاف قرش فما دون، يشرع أهل العروس في تجهيزها.. أما جهازها فيكون ملابس وصيغة لها، ومن أهل العروس الأغنياء من يزيدون على مهر زوجها بمال منهم يساويه أو يزيد عنه أو أقل منه بحسب الاقتدار".
وحول الأعراس يقول قساطلي إنها تقوم عند المسلمين سبعة أيام متوالية قبل العرس، "وكل ليلة مساءً يجتمع الرجال في محل ويقومون بما يطربهم من غناء ولعب وما شاكل ذلك، وكذلك النساء يعملن مثل ذلك في محل آخر، وهذا جميعه في بيت العريس، وفي اليوم السابع بعد الظهر يذهب جمع من نساء العريس ليأتين بالعروس وهن يغنين أغاني بأصوات واطية على الطريق، وحينما يأتين بها بعد ساعتين يفعلن مثل ذلك".
ويتابع قساطلي في وصفه لهذا الطقس الاجتماعي: "مساءً يعمل العريس وليمة ويدعو إليها كثيرين، فيأكلون ويشربون، ويأخذون العريس بزفة، ويدورون به في شوارع المدينة، وغالباً يبتدئون بذلك بعد الغروب بساعة ونصف، ووراءه أو أمامه طبل يضرب وصنوج، وبعضهم يعملون في تلك الليلة قراءة ذِكر، وبعد أن ينتهوا من هذه العملية يأتون به إلى بيته، فيدخل على عروسه، ثم من حين يأخذون في زفَّته ويضعون خنجراً طويلاً في زنارة فوقه شورة وطرزة، فلما يدخل على عروسه يضربها بعرضه أي الخنجر، ويقولون بأنه يفعل ذلك لتهابه العروس دائماً.
وفي اليوم الثاني، أي صباح العرس، يعمل العريس وليمة لكامل أصدقائه والذين يأتونه بالهدايا، ومن ثم بعد الأكل يفردون شورة ويضع كل منهم نقوطاً، وبعد انتهاء هذه العملية يجمعون الجميع ويسلمونه للعروس. ومن ذلك الوقت ينتهي العرس، غير أن العريس يبقى سبعة أيام وهو شاكلٌ ذلك الخنجر الطويل في منطقته".
ويقول قساطلي إن أعراس النصارى كأعراس المسلمين تقريباً، غير أنهم يأتون بالعروسين إلى الكنيسة، وبعد إجراء الفرائض الدينية، يذهبون إلى بيت العريس، والنساء لا يسمح لهن بالخروج أمام الرجال مطلقاً، وإذا خرجت إحداهن يجب أن تأتزر".
أربعة أيوب
ويفرد نعمان قساطلي حيزاً مهما للحديث عن أربعة أيوب، وهو يوم للتنزه والتريض يصادف الأربعاء الأخير من شهر نيسان (إبريل)، ويلفت النظر إلى أن أصل هذا العيد هو عيد مسيحي يصادف أربعاء الصلب عند الروم وهو الأرجح.
ويقول واصفاً عادات ذلك اليوم: "تجدهم يوم الثلاثاء مساءً أسراباً أسراباً متوجهين إلى البحر رجالاً ونساءً، وقلما تجد سرباً إن كان من الرجال أو النساء يسير بدون أن يتهلل أو يغني، ويدومون هكذا حتى نصف الليل، وقد ذهبنا في تلك الليلة بواسطة دعوة البعض، كان ذلك يوم الثلاثاء مساءً في 20 نيسان غربي سنة 1875م، فوجدنا الجميع يغتسلون في البحر رجالاً ونساءً وأطفالاً، وقد عدنا الساعة 4 ليلاً. وتوسدنا فرشنا فلم نقدر أن ننام من أصوات المارين المتصلة، لأن خيامنا كانت مضروبة في حاكورة بجانب الطريق المؤدي إلى البحر.. ويجرون نحو البحر من العصر يوم الثلاثاء، إلى ما بعد نصف الليل، وبعضهم يرجعون إلى منازلهم بالأغنية بعد أن يغتسلوا، والبعض ينامون هناك. وحتى يوم الأربعاء بعد الظهر بثلاث ساعات لا يبقى أحد منهم هناك مطلقاً".
ويضيف: "ثم في اليوم الثاني من أربعة أيوب الذي هو يوم الخميس، ويسمونه خميس المنطار يخرجون جميعاً لمحل مرتفع على تلة شرقي البلد، وبها مقام يسمونه بالشيخ علي المنطار، يزعمون أنه من أهل اليمن تضايق مرة من قومه فطار من هناك وأتى وسكن ذلك المحل، ولما مات دفن هناك وأقيم له جامع يقصده الزوار من أنحاء غزة ويسمونه بالمنطار أي الذي طار فالمَنْ هنا موصولية، بمعني الذي طار".
ويعلق قساطلي بأن "النصارى يزعمون بأنه كان مطراناً رفضوه قديماً لشقاوة معارضيه، وإذ كان صاحب تقى وذا أعمال صالحة، خرج وسكن هناك، فزعم المسلمون بأن قلبه مسلم، فعملوا ذلك المزار على أثر دير والله أعلم بالروايتين".
ويتابع: "أما هذا المحل فهو أعلى تل مرتفع في جهات غزة، وعلوه ينوف عن المائة قدم عن البحر. وفي يوم عيده يخرج جميع أهالي غزة رجالاً ونساءً وأولاداً لزيارته إلا ما ندر منهم، ودائماً يكون خروجهم صباحاً ويبقون هناك إلى ما بعد الظهر بساعتين وأكثر، وتصير سوقاً لبيع المأكولات والحلاوة، وينصبون القلابات لأجل الأولاد".
ومن الواضح أن المنطار هنا، لا علاقة له بكلمة من طار أو غيرها لأنه بكل بساطة يعني المكان المرتفع الذي يتيح الرؤية باللغة السريانية والنبطية.
آثار غزة
ويلاحظ قساطلي أن مدينة غزة رغم أنها قديمة فلم يبق شيء من أسوارها، ويقول: "ليس من أثارها القديمة شيء يستحق الذكر والاعتبار، ولولا وجود بعض من الأعمدة المرمرية والرخام في بعض الأماكن، لكانت غزة القديمة نسيت تماماً، ولكن تحت أبنيتها يجدون أثارا كثيرة بحسب ما قيل، منها يُستدل على عظمتها السالفة".
ويفصل في شرح جامع غزة الكبير فيقول: "هو أقدم البنايات المحفوظة بها حتى الآن، وقد كان كنيسة للصليبيين ولليونان قبل المسلمين، ثم تجدد في سنة 717 هجرية في أيام الملك قلاوون، وله خمسة أبواب ويحتوي على فسحة دار كبيرة، أما المحل الذي كان كنيسة فالآن هو الحرم، وهو جميل للغاية، وفي وسطه ستة عضائد كبيرة في كل منها أربعة عواميد من كل وجه عمود، وأما في الوجه الأوسط فعمود فوق عمود، وكلها من الرخام الأبيض، غير أنها لكرور الأيام وكثرة الأوساخ التي عليها أصبحت فاقدة اللون، ومن النظر إلى الشكل نعرف أماكنها.. وفي رأس العضادة الأخيرة من الجانب الأيسر برأس العمود العلوي، تاريخ يوناني وفوقه رسم كأس. وقد أقام المسلمون محراباً في الصدر، وأقاموا رواقاً أيضاً بجانب الجناح الأيمن كما تراه في الشكل، ومن الأمور المعجبة تكوين هذه الكنيسة لجهة القبلة بانحراف إلى الشرق، وباب هذه الكنيسة القديم جميل للغاية، وكل سقفها عقد وقواعد العضائد جميلة وكلها من الرخام الأبيض، وكذلك الرؤوس ذات نقوش جميلة للغاية.. في القسم الذي بناه المسلمون كما في الشكل، تاريخ عربي يعرب عن الوقت الذي بني فيه ذلك المحراب ومن بناه، وهو هذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم رمم هذا الجامع وأنشأ هذا المحراب أمير الأمراء الكرام موسى باشا في غرة رجب سنة 1074 هجرية".