ظهر التفاوت واضحاً بين رؤية اللجنة العليا للمفاوضات ورؤية المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا، في الشأن السوري. وقد قُدّمت في هذا الإطار، مجموعة من الوثائق إلى مجلس الأمن، معظمها متصل بالأطر التنفيذية، وبعضها مرتبط بمعالجة قضايا إنسانية والبعض الآخر متعلق بوقف إطلاق النار. لكن الأهم هو الوثائق المقدمة حول الإطار التنفيذي للحل السياسي في سورية، خصوصاً الوثيقة المسمّاة "التوصية الأولى: مسودة الإطار التنفيذي لبيان جنيف"، التي سيقدّمها إلى مجلس الأمن في 23 سبتمبر/أيلول الحالي، وسرّبت "العربي الجديد" ملخّصها في 4 سبتمبر/أيلول الحالي.
في هذا السياق، كشف الملخص التنفيذي عن المضمون بشكل واضح، إذ إن الغرض من الوثيقة هو أن "تكون أساساً للمفاوضات"، المباشرة أو غير المباشرة، بين النظام والمعارضة (ممثلة مبدئياً بالهيئة العليا للمفاوضات). وقد اتبع دي ميستورا عموماً استراتيجية تجمع بين إضفاء الشرعية على تصرفات رئيس النظام السوري بشار الأسد والأوضاع القانونية الناشئة عنها، ومنها دستور 2012، وبين انتقال سياسي يحتفظ قدر الإمكان بالنظام ومؤسساته تحت عنوان "الحفاظ على مؤسسات الدولة".
وكانت الهيئة العليا للمفاوضات قد قدمت نحو عشرين وثيقة للمبعوث الدولي، بعضها متصل بـ"المبادئ الأساسية للعملية السياسية" (22/4/2016)، والبعض الآخر متصل بـ"المرجعية القانونية" و"الإجراءات التفاوضية" (17/3/2016)، ولكن الأهم هي وثيقة "الإطار التنفيذي لهيئة الحكم الانتقالي" (22/4/2016)، التي تمثل فعلياً الإطار التنفيذي للحل السياسي، وفق القرارات الدولية المتمحورة أساساً حول اتفاق جنيف (30/6/2012). واتبعت الهيئة العليا للمفاوضات استراتيجية واضحة تجمع بين أمرين، وهما تحقيق انتقال سياسي جذري لا يبقي أي وجود لنظام الأسد، والحفاظ على مؤسسات الدولة.
وعلى الرغم من اعتماد دي ميستورا والهيئة العليا للمفاوضات على أساس مرجعية قرارات مجلس الأمن انطلاقاً من بيان جنيف، إلا أن الوثائق توضح أن ثمة احتمالا لخروج تفسيرات خطيرة ومؤثرة لقرارات مجلس الأمن، يمكن أن تتيح فرصة لفرض حل سياسي قد لا يرضى به السوريون.
وتُعتبر وثيقة الهيئة العليا للمفاوضات التي أُقرّت في 4 سبتمبر/أيلول الحالي، أفضل وثيقة قدمتها المعارضة حتى الآن وأكثرها رصانة وتفصيلاً، مقارنة بالوثائق التي قدمت إلى المبعوث الأممي في المفاوضات. وعرضت الهيئة الوثيقة على مجموعة أصدقاء سورية، في العاصمة البريطانية لندن، يوم الأربعاء، بغرض الحصول على دعمهم لرؤية المعارضة للحل السياسي، وبغرض القول إن المعارضة جاهزة ولديها رؤية متكاملة وقابلة للتطبيق.
وقد اتبعت الهيئة العليا للمفاوضات تكتيكاً مهماً ومثيراً، وهو استخدام وثيقة دي ميستورا لإطار الحل السياسي المقدمة في مارس/آذار الماضي أساساً وإجراء تعديلات عليها تناسب رؤية المعارضة وتضيف التفصيلات الضرورية اللازمة لذلك. بالتالي فإن المقارنة بين وثيقة دي ميستورا القديمة (أبريل الماضي) والجديدة (سبتمبر الحالي)، تبدو على غاية من الأهمية وتكشف بالضبط مكامن الخلاف الرئيسية في الرؤيتين.
أما وثائق دي ميستورا عموماً فتعكس إلى حد كبير "رؤية روسية" تحاول أن تتماشى مع التوافق الأميركي الروسي. وقد عكست الوثيقة الأولى للإطار التنفيذي للحل السياسي في مارس، مدى انحياز لغتها للرؤية الروسية إلى حد تجاوزت فيه حدود بيان جنيف نفسه. فهي مثلاً تبني الإطار على مبدأ "لا غالب ولا مغلوب"، وهو إطار لا ينفع معه تحقيق انتقال سياسي فعلي، وإنما إبقاء النظام باعتباره أمراً واقعاً غير مغلوب والبناء عليه.
من هذا المنطلق يدعو دي ميستورا إلى ضرورة الاستناد لدستور 2012 في "الحكم المحلي" و"الحفاظ على مؤسسات الدولة التي تمتلك شرعية دستورية" والمقصود بها بشكل رئيس الجيش والأمن، و"الالتزام ما أمكن بالدستور السوري" الحالي (الملحق الخامس) في تشكيل هيئة الحكم الانتقالي ذاتها. وسيكون من الطبيعي في هذه الحالة أن يستمرّ بشار الأسد في سدة الحكم في فترة التفاوض والفترة الانتقالية، بما مجموعه سنتان على الأقل من بدء المفاوضات الجدية للانتقال السياسي.
وقد مهّد دي ميستورا لذلك، معيّناً مجلسا استشاريا للنساء (كان محل انتقاد لاذع) لا يمثل نساء سورية، بقدر ما يعكس وجهة نظر قريبة من الرؤية الروسية. كما قام بـ"استشارة" ممثلين عن المجتمع المدني السوري، ملتقياً أطرافا هامشية من المعارضة أكثر من المعارضة الفعلية نفسها ليمنح رؤيته "شرعية"، وأخيراً قدم مستشاروه الفنيون النصح للمعارضة على شكل دراسة، لكيفية "تشكيل هيئة حكم انتقالي في ظل دستور 2012"، اعتماداً على "المادة 114" التي تنصّ على أنه "إذا قام خطر جسيم وحال يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة واستقلال أرض الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن مباشرة مهامها الدستورية، لرئيس الجمهورية أن يتخذ الإجراءات السريعة التي تقتضيها هذه الظروف لمواجهة الخطر". والغرض من هذه النصيحة غير البريئة، هو إقناع المعارضة من منطق قانوني، ببقاء الأسد في الفترة الانتقالية ومنح جميع تصرفاته، باسم الدولة، الشرعية اللازمة.
كما أوضحت الوثيقة الجديدة تعديلات شكلية أجراها دي ميستورا، على وثيقته الأولى للإطار التنفيذي للحل السياسي في أبريل/نيسان الماضي، لكنه حافظ على المضمون الأساسي كاملاً، فقد تراجع مثلاً عن صيغة (40 في المائة للنظام، و40 في المائة للمعارضة، و20 في المائة للمجتمع المدني) لهيئة الحكم الانتقالي، وصيغة "لا غالب ولا مغلوب"، وصيغة المراحل الأربع.
وتظهر خمس نقاط خلافية جوهرية بين وثيقة اللجنة العليا للمفاوضات (4 سبتمبر/أيلول الحالي) ووثيقة دي ميستورا (23 أغسطس/آب الماضي) للإطار التنفيذي للحل السياسي: يطرح دي ميستورا بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية (18 شهراً) بـ"صلاحيات برتوكولية" تسمح "باستمراره بممارسة بعض المهام"، بينما ترفض وثيقة اللجنة العليا للمفاوضات بقاءه لأي مدة مهما صغرت في الفترة الانتقالية.
وتتمحور النقطة الخلافية الثانية حول دمج القوى العسكرية غير النظامية المقاتلة بالجيش، إذ يقترح دي ميستورا دمج الشبيحة (مليشيا الدفاع الوطني وأخواتها) ومعهم ضمناً (المليشيات المجّنسة) مع من يرغب من الفصائل الثورية، بما تبقّى من الجيش، تحت عبارة رخوة للغاية: "الدمج بين القوى المتناحرة". أما وثيقة الهيئة العليا فترغب في إدماج من يرغب من القوى الثورية المناهضة لنظام الأسد.
وبالنسبة للأجهزة الأمنية والجيش، يقترح دي ميستورا الحفاظ عليهما، والعمل على "إصلاح القطاع الأمني" و"المحافظة على مؤسسة الجيش"، من خلال عملية دمج القوى العسكرية غير النظامية بها، في حين تجزم وثيقة الهيئة العليا للمفاوضات بضرورة إعادة هيكلتها وبنائها على أسس جديدة.
وفي شأن المرجعية الدستورية للاتفاق السياسي، تقترح وثيقة دي ميستورا ضمناً مرجعية الدستور 2012، كأساس للاتفاق السياسي في نهاية المرحلة الأولى (مرحلة التفاوض)، في حين تحسم الهيئة العليا للمفاوضات مرجعية تنشأ بإعلان دستوري يتم الاتفاق عليه في الاتفاق السياسي وتعلنه هيئة الحكم الانتقالي فور بداية المرحلة الانتقالية، وذلك تجنّباً لمنح الأسد أي شرعية للتصرفات التي قام بها خلال الفترة بين عام 2011 وحتى اليوم.
أما في ملف مجلس الشعب، فيقترح دي ميستورا "تجميد مجلس الشعب" الحالي في حين تحسم الهيئة العليا للمفاوضات بضرورة "حل مجلس الشعب". وفي الحالتين تقوم هيئة الحكم الانتقالي بالمهام التشريعية اللازمة لتسيير المرحلة الانتقالية.
هذه الخلافات الجوهرية هي استنتاجات بالمقارنة بين الوثيقتين، غير أن هنالك خلافات عدة أخرى تتعلق بالمحكمة الدستورية، ففكرة دي ميستورا هي توسعة المحكمة الدستورية، عبر تسمية أعضاء جدد من المعارضة في عضويتها، في حين ترى الهيئة العليا للمفاوضات ضرورة إعادة تشكيلها بالكامل.
وفي الوقت الذي يميل فيه دي ميستورا إلى تجاهل المجالس المحلية الناشئة خارج سلطة النظام، ويؤكد على تفعيل المجالس التي أُنشئت تحت سلطة النظام، تذهب المعارضة إلى ضرورة دمج المجالس بتمثيل متوازن من الطرفين. وفي حين تتجاهل مذكرة دي ميستورا المليشيات التابعة لدول أجنبية، والتي تقاتل تحت راية النظام بالإضافة إلى المليشيات المحلية، تلحّ وثيقة الهيئة العليا للمفاوضات على التعامل معها كمنظمات إرهابية. وفي حين تتجاهل وثيقة دي ميستورا التغيير الديمغرافي، فإن وثيقة الهيئة العليا للمفاوضات أبرزت بشكل متكرر، ضرورة عدم منح شرعية لأي تصرفات في منح الجنسية (باستثناء الأكراد المكتومين) بعد مارس/آذار 2011.