كان من المقرر أن تصدر المحكمة الفيدرالية في واشنطن حكمها على الجنرال مايكل فلين الذي شغل منصب أول مستشار في شؤون الأمن القومي للرئيس دونالد ترامب، بتهمة "الكذب على مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) وعلى الكونغرس" في قضية التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية لعام 2016. وكان من المتوقع أن يعفي القاضي الجنرال من أي عقوبة بالسجن بالرغم من خطورة ذنبه قانونياً وذلك بناء على توصية المحقق الخاص روبرت مولر الذي ارتأى على المحكمة تخفيف العقوبة إلى حد الصفر، كمكافأة للجنرال على تعاونه معه وتزويده إياه بمعلومات قيّمة حول ملف التدخل.
لكن الحكم تأجل صدوره إلى مارس/آذار 2019، بعد أن وافق الدفاع على عرض القاضي بالتأجيل وبعد أن وجّه هذا الأخير توبيخاً قاسياً إلى الجنرال الذي ارتكب ما يشبه "بيع بلاده" إلى حكومة أجنبية، كما قال وأخفى الحقيقة أيضاً "عن مسؤولين كبار (نائب الرئيس مايك بنس)". وانطوى التوبيخ على غمز ضمني من قناة البيت الأبيض الذي كان قد طلب من مدير "أف بي آي" السابق جيمس كومي، "صرف النظر" عن التحقيق مع فلين، حسب ما أفاد كومي بعد إقالته.
وبذلك أعطت المحكمة ضمناً فرصة إضافية للجنرال كي يبوح بالمزيد بما لديه من معلومات حول الملف الروسي وإلا مواجهة العقوبة بالسجن التي يقال إن فلين لا يتحملها مهما كانت رمزية لأن مفاعيلها ستكون مدمرة لسمعته ومستقبله.
وكان فلين قد شغل منصب مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي لمدة 3 أسابيع في بداية إدارة ترامب، قبل أن تنكشف مراوغاته في موضوع التدخل وعلاقاته مع موسكو واضطرار الرئيس لإقالته بعد افتضاح أمره.
على أثر ذلك التقطه مولر في سياق تحقيقاته، ولإنقاذ نفسه اعترف بفعلته ووعد المحقق بالتعاون معه والبوح بما لديه من معلومات حول الملف مقابل إعفائه من السجن. فهو منجم معلومات في الملف الروسي. ما يملكه مهم وربما يكون من الصنف الحاسم. كان من بين أكثر من التقوا بشخصيات روسية في واشنطن وموسكو، أثناء الحملة الانتخابية وبعدها. وبترحيل الحكم أراد القضاء "عصر" فلين حتى آخر قطرة مما في حوزته في هذا الموضوع.
خطوة فاجأت البيت الأبيض الذي كان يتطلع اليوم إلى حكم قضائي يعفي الجنرال فلين من المحاسبة وبما يعزز زعم ترامب بأن القضية الروسية بمجملها ليست سوى "خدعة". وظهرت آثار الخيبة في اللقاء الصحافي الخاطف والمضطرب الذي عقدته المتحدثة الرسمية في البيت الأبيض سارة ساندرز التي سارعت إلى وضع فاصل بين ترامب وفلين. فهذا الأخير أمام احتمالين: إما أن يبقى عند حدود ما أفصح عنه من دون إضافات وعندئذ يعاقب بالسجن كما لمّحت المحكمة اليوم. وإما أن يكشف خفايا أخرى تعزز تهمتي "التواطؤ وعرقلة سير العدالة". وفي الحالتين يتأذى البيت الأبيض.
مايكل فلين كان أول جنرال استعان به ترامب في تركيب إدارته. وكان من أكثر الموالين للرئيس. وقد ينتهي ليكرر نفس الدور الذي لعبه جون دين معاون الرئيس السابق ريتشارد نيكسون في فضيحة "ووترغيت"؛ يعترف بما عنده لينقذ نفسه قدر الإمكان وبالتالي ليساهم في فك طلاسم اللغز.
الرئيس ترامب استعان بأربعة جنرالات في تركيب إدارته، فلين، جون كيلي، هربرت ماكماستر، وجيمس ماتيس. استبشر المراقبون بهم كصمام أمان لضبط رئاسة تنقصها التجربة ومعروفة بالتسرّع. لكن الرئيس استعصى على الضبط. تساقطوا الواحد تلو الآخر. والباقي منهم، ماتيس على الطريق حسب التقديرات، والمفارقة أن فلين الأقرب لترامب قد ينتهي ليكون الأكثر ضرراً له.