يستعدّ المخرج الفلسطيني، هاني أبو أسعد، لتصوير فيلمه الجديد، "صالون هدى"، وهو من نوع الـ"ثريلر". تجري أحداث العمل في فلسطين. بعد إقامته فترة في هوليوود، حيث أخرج فيلمين هوليووديين لم ينالا تقديراً مهماً، لا جماهيرياً ولا نقدياً، يعود أبو أسعد إلى شؤونه الخاصة، من خلال حكاية تدور فصولها في فلسطين، ليعيد الصلة بالمواضيع التي ابتعد عنها، وبقضاياه التي شغلته في أهمّ أفلامه، كـ"الجنّة الآن" (2005) و"عمر" (2013).
يروي "صالون هدى" حكاية سيدة تُدعى ناديا، تتحوّل زيارتها إلى صالون حلاقة في بيت لحم إلى كابوس، بعد تعرّضها لابتزازٍ من مالكة الصالون. زيارة عادية تُصبح شيئاً غير مألوف.
إلى الإخراج، كتب هاني أبو أسعد السيناريو، أما الممثّلون، فهم: منال عوض وعلي سليمان وميساء عبد الهادي، علماً أنّ الأخيرين تعاونا مع كاميرا أبو أسعد في أفلامٍ سابقة له.
في هذه المناسبة، حاورت "العربي الجديد" المخرج الفلسطيني، المرُشَّح مرّتين لـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، عن "الجنّة الآن" و"عمر". في الحوار، تحدّث أبو أسعد عن اكتشافه السينما في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، وعن المقاومة الثقافية والنجاح في هوليوود عندما يكون المخرج من أصل عربي؛ وروى أنّه كان يرتاد صالات السينما منذ الرابعة من عمره، في مسقط رأسه الناصرة، مع خاله.
تعود ذكرياته الأولى إلى الفترة التي اكتشف فيها أفلام "وسترن"، لـ سام بكينباه وسيرجيو ليوني. أفلامٌ كهذه، أيقظت في الفتى شعوراً بالخوف والحيرة: "لم أكنْ أصدّق أنّ الجياد في أفلام رعاة البقر كانت تخرج من عدسة الكاميرا". أما اللحظة التي حسم فيها قراره، وأراد أنْ يكون سينمائياً، فكانت عند مُشاهدته "طيران فوق عشّ الوقواق" للتشيكيّ ميلوش فورمان للمرة الأولى. يومها، كان في الرابعة عشرة. يتذكّر: "منذ ذلك الوقت، رحتُ أحدّد هويّتي، وأشعر كفلسطيني أنّ هناك خطأ ما يحدث. قبل ذلك، كنتُ طفلاً في الناصرة، فلم أهتمّ بالاحتلال. خضتُ التجربة الأولى معه حين كنتُ في الثامنة. اقتحم جنود إسرائيليون المنزل بحثاً عن سلاح. أيقظني أبي ليتسنّى لهم التنقيب في سريري. قال لي: لا تخَفْ. الجنود كانوا يُقلبون "الفرش" والوسادة من دون أن أفهم ما يجري. حاول والدي الشرح: إنّهم يبحثون عن سلاح. لم يجدوا آنذاك شيئاً. كانت لي تساؤلات كثيرة عن مقاومة الاحتلال. فيلم فورمان أجابني عليها. عرفتُ كيف سأتصرّف بعد مُشاهدتي كيف يثور جاك نيكلسون على السلطة. الفيلم قال لي: قاوِم وإنْ قتلوك جسدياً، فروح المقاومة لا بدّ أن تنتقل إلى غيرك، كالعدوى".
يضيف أبو أسعد: "عائلتي كانت مقاوِمة. عندما تكبر قليلاً، تُدرك معنى العنصرية. حين يركب العربيّ الباص مثلاً، يجري تفتيشه. التنقّل يتطلّب تصاريح، حتى لاجتياز مسافة قريبة. عام 1967، اقتصرت التصاريح على الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. لكنّ الشعور بالعنصرية ظلّ موجوداً. كان اليهود ينظرون إلى مَن يتكلّم اللغة العربية في الباص كمن يقول: "أنتَ، ماذا تفعل هنا بيننا؟". الجوّ العام يريدك ألاّ تقاوم لأنّهم الأقوى، وسط مناخ: "ماذا يمكنك أن تفعل؟". لمّا شاهدتُ "طيران فوق عشّ الوقواق"، أدركتُ ماذا يُمكنني أنْ أفعل".
هناك دائماً نوع من التحدّي في أفلام هاني أبو أسعد. هذا متأتٍ من شخصيّته التي تشكّلت خلال العيش تحت الاحتلال الإسرائيلي. رغبته في الانتساب إلى كلية هندسة الطيران، للتخرّج منها بشهادة، لم تكن صدفة، بل ثمرة تحدٍّ. لم يكن أبو أسعد مغرماً بهذا الاختصاص. لكنْ، لكونه فلسطينياً، كان يتعذّر عليه الدخول في هذا المجال. لذا، سافر إلى الخارج: "لحسن حظّي، كان لي خال يعيش في هولندا. سافرتُ إلى أوروبا، وتابعتُ الدراسات العليا في هندسة الطيران، ثم مارستها. لكنّي أدركتُ أنّ الخطوة التي أقدمتُ عليها لم تكن إلاّ مجرّد تحدٍّ".
بعد أفلامٍ تطرح قضايا فلسطينية متفرّقة، آخرها "يا طير الطاير" (2015)، دخل أبو أسعد، مع "الجبل بيننا" (2017)، نادي هوليوود الضيّق، الذي يضمّ سينمائيين من "الشرق الأوسط". تجربته الأميركية الأولى "البريد" (2012، تمثيل ميكي رورك) لم تكن موفّقة. لكنّ أبو اسعد لم يستسلم. قدّم "الجبل بيننا" (كايت وينسلت وإدريس ألبا)، الذي يُصوّر شخصين يضطرّان إلى تمضية بعض الوقت معاً لظروف قاهرة، لا يسيطران عليها. التلاقي بين الحبّ والصمود، كما في "عمر"، فكرة أساسية أقنعته بالمضي بإخراج الفيلم، الذي اقترحه عليه استديو "فوكس".
لم يُخفِ أبو أسعد أنّ تجربة هذا الفيلم، بالنسبة إليه، أهمّ من النتيجة التي خرج بها. فهو لا يهمّه إذا نجح "الجبل بيننا"، طالما أنّه تعلّم الكثير منه وهو ينجزه. واعترف بأنّه ليس أفضل ما قدّمه في حياته، لكنّه من أفضل تجاربه إطلاقاً، إذْ أفهمه جيداً ما كان يجهله سابقاً: العلاقة بين الفيلم الهوليوودي والجمهور المستهدف ساهمت في بسط سلطة هوليوود على عالم السينما، وغزو الصالات العالمية بنسبة 80 بالمئة. للمرّة الأولى، شعر أبو أسعد أنّه مخرج، لا يفعل شيئاً سوى الإخراج، خلافاً لتجاربه السابقة عندما كان يتدخّل في "الشاردة والواردة". يقول أبو أسعد: "في هوليوود، كنتُ مخرجاً فقط. لا يحقّ لي التغيير في النصّ. الهدف كان بلوغ فيلم رومانسي، يحاكي نساء ناضجات فوق سنّ الثلاثين، لا يعانين العقد. في هوليوود، لديهم جمهور معيّن يريدون مخاطبته. كتابة النصّ من أجلهم، لا من أجلي. في "الجبل بيننا"، كنتُ مخرجاً. لم يتدخّل أحد بعملي خلال التصوير. شعرتُ ماذا يعني أن أكون مخرجاً، لا علاقة لي بالكتابة. دوري فقط إدارة الممثّلين وفريق العمل".
هل صحيحٌ أنّ هوليوود "شغل محامين"، كما يقول الفرنسي أوليفييه أساياس، الذي يؤكّد أنّ عاصمة السينما الأميركية يُديرها أناسٌ يرتدون ربطات عنق، ويناقشون الوصفة المثالية لإنجاز فيلم؟ يوافق أبو أسعد، ويقول: "كنتُ أعرف مسبقاً ما ينتظرني، وأردتُ خوض التجربة. المنفّذون يأتون إليّ بأرقام: هذا ما ينقص السوق. كلّ شيء موثّق ومُسجّل. حتى حين تقرأ عبر "أمازون"، وحين تتثاءب وتضحك، وحين تطوي الصفحة. الكاميرا موجودة دائماً، تخزّن الانطباع والشعور. الأمر خطر جداً. عملتُ وفق هذه المعادلة. الفيلم نجح تجارياً، وسدّد تكاليفه، وإن لم يرُق للنقّاد. الجمهور أعطاه تقدير A. لا يكترث المنتجون كثيراً بالنقد، بل بالغاية المادية من الفيلم. اليوم غايتي الفنّ". وعن العمل في هوليوود عندما يحمل المخرج الهوية الفلسطينية، ويأتي من خلفية كالخلفية النضالية لهاني أبو أسعد، يقول المخرج: "يصعب أنْ تكون فلسطينياً وتعمل في هوليوود. لكنّ الوضع تغيّر. الأبواب مفتوحة للعرب، المطبّعين منهم، الذين لا يكترثون بالسياسة، وينتقدون بلدهم. أما مَن ينتقد النظام العالمي، فغير مرحّب به. كنتُ بصدد تصوير مسلسل مع "نتفليكس" يتضمّن نقداً للأنظمة، لكنّهم وجدوا أنّ الأمر ليس في مصلحتهم، فأوقفوه. بينما وجدوا أنّ مسلسل "جِن" مثلاً مُسلٍّ، فعرضوه. مسلسلي عن الصراع على السلطة في بلد شرق أوسطي، كتبته مع زوجتي. توقّف قبل موعد بدء التصوير بشهر. نحاول إيجاد جهة أخرى لإنتاجه. الأكيد إنْ أردتَ انتقاد إسرائيل، يتوقّف العمل فوراً. التنوّع المزعوم هو: إمّا أنّ تحاكي السياسة الأميركية، أو لا وجود لك. فيملي المقبل أسيطر تماماً عليه، لأنتقم من النظامين التجاري والسياسي. أفلامي انتقامية".