أدت حرب الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، إلى صراعٍ كبير في قطاعي الفنون والثقافة في الولايات المتحدة، وسط انقسام حادٍ حول الموقف منها بين الفنانين والعاملين من جهة، والمؤسسات من جهة أخرى، بحسب صحيفة ذا نيويورك تايمز الأميركية. وشهدت الفعاليات الفنية والمتاحف ومهرجانات الكتب، إضافةً إلى المجلات والجامعات، خلال السنة الماضية، العديد من الإقالات والاستقالات، وخلافاتٍ كبيرة على الخطاب حول العدوان الإسرائيلي.
ومنذ أكتوبر 2023، طرد مالك مجلة آرتفوروم رئيس تحريرها بعد نشره رسالة مفتوحة تدعم "تحرير فلسطين"، مما دفع الكتاب والفنانين إلى الاستقالة ومقاطعتها. كما استقال قيادي من وكالة Creative Artists Agency بعد نشره على وسائل التواصل الاجتماعي صوراً تستخدم وصف "الإبادة الجماعية" لما تقوم به إسرائيل في غزة بحق الفلسطينيين.
وبشكل مماثل، استقالت الرئيسة التنفيذية المؤقتة لمتحف فني في سان فرانسيسكو بعد أن أصدر فنانون وموظفون يطالبونها بسحب الاستثمارات من دولة الاحتلال. أخيراً، استقالت الرئيسة التنفيذية لـ"بن أميركا" بعد أن لاحقتها لأشهر انتقادات الكتاب الذين قالوا إنّ المؤسسة المعنية بحرية التعبير لم تتخذ موقفاً حازماً من إسرائيل. كما ألقى البعض باللوم على المديرة التنفيذية السابقة بسبب "الالتزامات طويلة الأمد بالصهيونية وكراهية الإسلام والحروب الإمبريالية في الشرق الأوسط".
ورأت "ذا نيويورك تايمز" أنّ الوضع الحالي "لا يبشر بالخير لالتزام العالم الثقافي التقليدي بالتعبير الحر والمنفتح". ونقلت عن أستاذ التاريخ في جامعة بنسلفانيا، جوناثان زيمرمان، قوله: "كان أملي أن يسمح لنا السابع من أكتوبر بخلق نوع من الإجماع حول التعددية الليبرالية الصغيرة، وهذا لم يحدث". ولفتت الصحيفة إلى أن متابعة ما جرى في المؤسسات الفنية والثقافية يكشف عن نمط محدد: سعت إدارات المؤسسات والملاك والمدراء التنفيذيون إلى قمع وجهات النظر المعارضة لإسرائيل، فيما كان الموظفون والفنانون الأدنى رتبةً وشهرةً هم من يحارب إعطاء شرعية لسردية الاحتلال.
على سبيل المثال، طرد متحف نوغوتشي في نيويورك ثلاثة موظفين لارتدائهم الكوفية الفلسطينية، بعد أن فرضت الإدارة قراراً يحظر على العاملين ارتداء ملابس أو إكسسوارات "تعبّر عن رسائل أو شعارات أو رموز سياسية". فيما قام موظفٌ في مكتبة في بروكلين بتعطيل إحدى الفعاليات لأن أحد المحاورين كان حاخاماً صهيونياً، كما رفض مؤلفان الظهور في ندوة في مهرجان ألباني للكتاب مع مؤلف مؤيّد لإسرائيل.
ورأت الرئيسة التنفيذية للمجلس اليهودي للكتاب، نعومي فايرستون تيتر، أن تأييد إسرائيل "صار صفةً سلبيةً في بعض الأوساط"، مشيرةً إلى "مصطلحات مثل صهيوني وإسرائيلي باعتبارها مصطلحات مهينة، وهو أمر محبط". فيما رأى أستاذ علم الاجتماع في جامعة ستوني بروك، موسى الغربي، إنّ دعم إسرائيل يظل قوياً في المؤسسات الثقافية لأن "الجانب المؤيد لإسرائيل في هذه المعادلة منظم بشكل أفضل بكثير بالمعنى المؤسسي العملي، من حيث ممارسة الضغط على صناع القرار".
وعلى الرغم من بعض الحالات المختلفة، إلاّ أن المسؤولين الإداريين هم من سعوا في معظم الأحيان لقمع الخطاب المؤيّد لوقف الحرب على غزة وللقضية الفلسطينية، وهو ما ظهر في مركز إن واي 92 (92NY) الثقافي اليهودي، من أبرز المساحات الثقافية في مانهاتن.
وعقب بدء العدوان على غزة في أكتوبر 2023، قرر "إن واي 92" تأجيل ظهور الروائي الحائز على جائزة بوليتسر، فيت ثانه نجوين، إلى أجل غير مسمى، مستشهداً بتصريحاته العامة المنتقدة لإسرائيل. لكن ذلك أدى إلى إلغاء العديد من الكتاب الآخرين مشاركتهم في فعاليات المركز، تضامناً مع نجوين.
لاحقاً، استقال عدد من موظفي المركز المناصرين للفلسطينيين بدلاً من الامتثال لسياسة جديدة تحظر عليهم التعبير عن آرائهم السياسية. واستقالت الفنانة هازل إلسباخ من عملها بدوام جزئي مساعدة تدريس في المركز، وقالت في رسالة بالبريد الإلكتروني: "لقد شهد إن واي 92 رقابة متزايدة وانتقاماً ضد الموظفين الذين يعربون عن تضامنهم مع ضحايا الإبادة الجماعية، إلى جانب موقف المؤسسة الواضح في دعم إسرائيل". ولفتت مؤلفة كتاب "إضراب الثقافة: الفن والمتاحف في عصر الاحتجاج" والمديرة السابقة لمتحف كوينز، لورا رايكوفيتش، إلى أن "العقبة الأساسية بالنسبة للمتضامنين مع الفلسطينيين هي القوة البنيوية"، مضيفةً: "إن اختلال التوازن في القوة بين إسرائيل وفلسطين واضح حقاً، وهذا يلعب دوراً كبيراً. هناك شعور باليأس من إيصال الصوت الفلسطيني (في المؤسسات الثقافية)".