13 نوفمبر 2024
هذه الرمزيات في رئاسيات الجزائر
أبانت اللحظات الأخيرة لإقفال باب التّرشيحات للرّئاسيات الجزائرية عن رمزياتٍ لن تزيد، للأسف، إلاّ في شدة الاحتقان الذي يُنقص، في نفوس الجزائريين، من قدسية السّلطة، ومن مكانة المؤسسات السياسية، وفي الأخير، يقضي على ما تبقّى من أسس الثقافة السياسية التي تحدّثنا، مرارا وتكرارا، أنها فُرّغت من مضمونها، وأصبحت الجزائر صورةً لبلد يمكن أن يُسيّر من دون ضوابط، مرجعيات أو أسسٍ سياسية. كما يمكن، في الجهة المقابلة، لهذه الرّمزيات، إذا أحسنّا قراءتها وترجمتها إلى مفاهيم، وجعلنا منها مرجعياتٍ للسلوك الآتي، أن تصبح نبراسا لنا في جزائر نتمنّى أن تصل إلى ما نصبو إليه، قوّة وازدهارا.
من اليوم الأوّل لدعوة الوعاء الانتخابي، سيّرت الرّمزيات المشهد، وطغت على الفعل السياسي. ولعلّ الرّمزية الأولى هي تسيير الجزائر من خلال الرسائل مدة زادت عن عهدة كاملة، لتستمرّ العملية من دون أن ندرك الأثر الذي غرسته في الجزائريين، وأوحت إليهم التظاهر، ليس ضد الرئيس باعتباره شخصا أو رئيسا للدولة، بل ضدّ وسيلة تخاطب، بعيدة عن طبيعة الأمور في عصر طغت فيه الصورة الآنية، وأصبحت تحكم بلداً بحجم الجزائر.
وكانت المعارضة الحقيقية لهذه الرّمزية، المكوّنة أساساً من المجتمع المدني، والجزائريين عموماً، من خلال وسائل التّواصل الاجتماعي، تصعّد، مرّة بعد مرّة، من انتقاداتها هذا التسيير، من خلال الرّسائل، وكثيرا ما رفعت صوتها للتنديد ضد التّكريمات التي تسدى للرّئيس، من خلال إبراز إطار صورة له، وكأنّ الحكم، في هذا كله، أصبح مركّزاً على هذه الرمزية، وفقط، وهو ما استدعى، بمجرّد سماع الجزائريين رسالة الترشّح، ثم قراءة مدير حملة الرّئيس عرض الوعود التي تقدّم بها لجموع الجزائريين، خروجهم لإحساسهم بأن هذه الرمزية انتقلت من التأثر الافتراضي إلى التأثير المستقبلي الأكيد، إذا ما تم التجديد للرئيس لعهدة جديدة.
وحتى لا تُفهم العبارات بأنها مستصغرة لشأن الرئيس، فإننا ما زلنا نقول إن عبدالعزيز بوتفليقة قام بما هو مطلوب منه، بل أكثر حينما أوقف سيل الدم بالمصالحة والوئام، كما أنه أعاد للجزائر صورتها على المستويين، الإقليمي والدولي، ولكنه أصيب، كما يُصاب الإنسان، بالوهن البيولوجي، لزم، من محيطه ومن الجزائريين عموماً، أن يريحوه منه، عرفانا
لمجهوداته، ولعلّهم، إذا فعلوا هذا بتظاهراتهم، يعترفون له بالجميل، أكثر مما يدينونه. هذا إذا سمع، كما يقول، في رسالته، لآهات الجزائريين وأصواتهم، وعدل عن طلب التّجديد له، ولو بوعوده التي جاءت متأخّرة بلسانه هو، حيث سبق له أن قدّمها في 2011 و2012، وبقيت، من وقتها، حبرا على ورق.
وكانت المعارضة الحقيقية لهذه الرّمزية، المكوّنة أساساً من المجتمع المدني، والجزائريين عموماً، من خلال وسائل التّواصل الاجتماعي، تصعّد، مرّة بعد مرّة، من انتقاداتها هذا التسيير، من خلال الرّسائل، وكثيرا ما رفعت صوتها للتنديد ضد التّكريمات التي تسدى للرّئيس، من خلال إبراز إطار صورة له، وكأنّ الحكم، في هذا كله، أصبح مركّزاً على هذه الرمزية، وفقط، وهو ما استدعى، بمجرّد سماع الجزائريين رسالة الترشّح، ثم قراءة مدير حملة الرّئيس عرض الوعود التي تقدّم بها لجموع الجزائريين، خروجهم لإحساسهم بأن هذه الرمزية انتقلت من التأثر الافتراضي إلى التأثير المستقبلي الأكيد، إذا ما تم التجديد للرئيس لعهدة جديدة.
وحتى لا تُفهم العبارات بأنها مستصغرة لشأن الرئيس، فإننا ما زلنا نقول إن عبدالعزيز بوتفليقة قام بما هو مطلوب منه، بل أكثر حينما أوقف سيل الدم بالمصالحة والوئام، كما أنه أعاد للجزائر صورتها على المستويين، الإقليمي والدولي، ولكنه أصيب، كما يُصاب الإنسان، بالوهن البيولوجي، لزم، من محيطه ومن الجزائريين عموماً، أن يريحوه منه، عرفانا
الرّمزية الأخرى أن التظاهرات أبانت عن انقسام الجزائر إلى ثلاثة أجيال، عايش الأوّل منها الثّورة التحريرية، واكتسب منها شرعية ثورية، في حين أن الجيل الثاني عايش العشرية السوداء، وفقد، من جرّائها، عشر سنواتٍ من حياته، ولكنها أكسبته مناعةً من المناورة بآماله والمسايرة لمطالبه، ما أمكنه تمرير المشعل لجيل ثالث، يعرف بالجيل الرقمي، والذي هو الآن حامل مشعل التّظاهرات، مطعّما بوصايا آبائهم من الجيل الثاني بعدم التضحية بالآمال، وعدم الخضوع للنيات الحسنة، مع تمرير خطاب واقعي بأن المستقبل لهم، وبأنّهم من سينجح في ما فشل فيه آباؤهم، ومن دون التنكر للجيل الثوري الذي له كل العرفان، ولكن آن له الركون للراحة، لأن الزمن الرقمي سريع، وتطبيقاته الذكية لا تليق إلا لمن يجاري سرعة الجيل الخامس من الإنترنت، ولا يتحدث إلاّ بالبايت، الجيغابايت والعالم الافتراضي والذكاء الاصطناعي.
مرّر الجيل الأول تضحياته إلى الجيل الثاني الذي تعلّم وانتظر، طويلا، بصدق، أن يُسلّم له المشعل، ولكن ما سُلّم له هو عشرية سوداء أردت آماله، ليشعر بأن أبناءهم هم من سينتقمون لهم من الزمن، بإيصالهم إلى حرية حقيقية وخيارات، وليس الحيرة، وذلك كله بشكل سلمي، عبّر عن حضارية الجزائريين، وصحّح للكل صور الدّمار والنّار اللذين عايشتهما البلاد. ولعلّ الرمزية الأهم، هنا، التصالح بين الأجيال الثلاثة، ولكن شريطة أن يتحقق أمل تمرير مشعل العقد الاجتماعي الجديد، والجمهورية الثانية، لمن هم أقدر على فهم عصر الثورة الافتراضية.
تشير الرمزية الثالثة إلى أنّ السياسة شأن حيوي، يحتاج من يقاربها إلى حنكة، دهاء وصبر، للوصول إلى المبتغى، وهو ما برز في عفوية الشباب المعروف بعزوفه عن الانتخاب، وبعده عن الشأن العام والفعل السياسي، والذي أصبح، الآن، يبحث في محرّكات الشبكة العنكبوتية عن الإشكالات الدستورية، يحاول قراءة مختلف الأفعال وردود الأفعال، كما يعمل على النشر الواسع لكل ما يصل إليه، ليزيد من وعيه. وذلك كله مع توجه راقٍ لاستشراف مآلات الأوضاع، من دون ولاء منه لأحد، إلاّ للمبادئ التي تربّوا عليها، ويريدون أن تكون بوصلتهم للتغيير المستقبلي. وتشير هذه الرمزية، من ناحية أخرى، إلى أهمية الإصرار على المطالب في مواجهة تعنّتٍ في الاعتقاد بأن الصمت هو بمثابة رضا أبدي بالسلبية، حتى لا نقول بالظلم والاستبداد.
كشفت التّظاهرات رمزية مهمة جدّا، أن الاستبداد مرض يمكن العلاج منه بعد تشخيصه، وإبراز ما يجب أن يحلّ محلّه من صحّة وعافية. وقد أشار صاحب هذه السطور، مرارا
وتكرارا، في "العربي الجديد"، إلى حجم الوهن الذي أصاب الجزائر، من جرّاء سياسة عامة بدون بوصلة، بدون تخطيط وبدون كفاءات، تقف على تجسيدها على أرض الواقع، على الرغم من مئات مليارات الدولارات التي دخلت خزينة الدولة، ولم تفلح في إبعاد الجزائريين عن دائرة الريع، لتذهب تلك المليارات أدراج الرياح، ويحل على الجزائر زمن التقشف، سماه بعضهم زمن الإنجازات، وأية إنجازات...
تشترك هذه الرمزيات، جميعها، في صنع جزائر الغد، لأنها أرغمت الجميع على محاولة التقاطها وترجمتها إلى شعاراتٍ حُملت في التظاهرات، ولخصها مطلب وجوب الإصغاء لصوت الشعب واحترام خياراته، ليس إلا. لماذا لا يتم الاعتماد على تلك الرمزيات في فهم جزائر أخرى، آن لجيل "طاب جناني" (باللهجة الجزائرية: انتهت صلاحياتي)، وهي قطعة من خطاب شهير للرّئيس الحالي؟
تبقى، في الأخير، الإشارة إلى رمزيةٍ، لعلها رمزية أمل، وهي متصلة بما سيؤول إليه هذا الوعي الجديد. الثقافة السياسية التي سادت، وما تزال، سواء من السلطة أو من الشعب، تشير إلى تنافر، لأن العقد الاجتماعي الذي يربط الطرفين شهد، منذ الاستقلال، قطيعةً كانت ضحيتها المواطنة، العدل في توزيع الثروات، احترام خيار الناس فيمن يحكمهم، إضافة إلى توفير فرص الحياة بالمساواة للجميع في إطار دولة القانون.
عملت التظاهرات، بوعي وسلمية، على رفع شعار واحد، هو رفض التجديد للرئيس لعهدة جديدة، ليأتي عرضه أكبر من كل التمنيات، لتتضمن كل تلك المطالبات المذكورة، ولكنها جاءت في الوقت الخطأ، بعد أن أحست السلطة بانفراط كلي لذلك العقد، ولأنها لم تشعر، إطلاقاً، بأن العقد غُيّب تماما.
الأمل، بالنتيجة، معقودٌ على انتصار التصالح بين الأجيال الثلاثة، لتكون نتيجته الانتهاء من الاحتقان، والالتفات إلى إجراء إصلاحاتٍ عميقةٍ بإجرائيةٍ تكفل للجميع دولة قانون، تكبر بها الجزائر. الأمل معقودٌ على رمزية تغيير الثقافة السياسية، لتكون جامعة للجزائريين الذين تجمعوا، ذات يوم، في 1954، لدحر الاستعمار الاستيطاني و نجحوا.. الأمل في غد مشرق مشروع، وإن غداً لناظره لقريب.
مرّر الجيل الأول تضحياته إلى الجيل الثاني الذي تعلّم وانتظر، طويلا، بصدق، أن يُسلّم له المشعل، ولكن ما سُلّم له هو عشرية سوداء أردت آماله، ليشعر بأن أبناءهم هم من سينتقمون لهم من الزمن، بإيصالهم إلى حرية حقيقية وخيارات، وليس الحيرة، وذلك كله بشكل سلمي، عبّر عن حضارية الجزائريين، وصحّح للكل صور الدّمار والنّار اللذين عايشتهما البلاد. ولعلّ الرمزية الأهم، هنا، التصالح بين الأجيال الثلاثة، ولكن شريطة أن يتحقق أمل تمرير مشعل العقد الاجتماعي الجديد، والجمهورية الثانية، لمن هم أقدر على فهم عصر الثورة الافتراضية.
تشير الرمزية الثالثة إلى أنّ السياسة شأن حيوي، يحتاج من يقاربها إلى حنكة، دهاء وصبر، للوصول إلى المبتغى، وهو ما برز في عفوية الشباب المعروف بعزوفه عن الانتخاب، وبعده عن الشأن العام والفعل السياسي، والذي أصبح، الآن، يبحث في محرّكات الشبكة العنكبوتية عن الإشكالات الدستورية، يحاول قراءة مختلف الأفعال وردود الأفعال، كما يعمل على النشر الواسع لكل ما يصل إليه، ليزيد من وعيه. وذلك كله مع توجه راقٍ لاستشراف مآلات الأوضاع، من دون ولاء منه لأحد، إلاّ للمبادئ التي تربّوا عليها، ويريدون أن تكون بوصلتهم للتغيير المستقبلي. وتشير هذه الرمزية، من ناحية أخرى، إلى أهمية الإصرار على المطالب في مواجهة تعنّتٍ في الاعتقاد بأن الصمت هو بمثابة رضا أبدي بالسلبية، حتى لا نقول بالظلم والاستبداد.
كشفت التّظاهرات رمزية مهمة جدّا، أن الاستبداد مرض يمكن العلاج منه بعد تشخيصه، وإبراز ما يجب أن يحلّ محلّه من صحّة وعافية. وقد أشار صاحب هذه السطور، مرارا
تشترك هذه الرمزيات، جميعها، في صنع جزائر الغد، لأنها أرغمت الجميع على محاولة التقاطها وترجمتها إلى شعاراتٍ حُملت في التظاهرات، ولخصها مطلب وجوب الإصغاء لصوت الشعب واحترام خياراته، ليس إلا. لماذا لا يتم الاعتماد على تلك الرمزيات في فهم جزائر أخرى، آن لجيل "طاب جناني" (باللهجة الجزائرية: انتهت صلاحياتي)، وهي قطعة من خطاب شهير للرّئيس الحالي؟
تبقى، في الأخير، الإشارة إلى رمزيةٍ، لعلها رمزية أمل، وهي متصلة بما سيؤول إليه هذا الوعي الجديد. الثقافة السياسية التي سادت، وما تزال، سواء من السلطة أو من الشعب، تشير إلى تنافر، لأن العقد الاجتماعي الذي يربط الطرفين شهد، منذ الاستقلال، قطيعةً كانت ضحيتها المواطنة، العدل في توزيع الثروات، احترام خيار الناس فيمن يحكمهم، إضافة إلى توفير فرص الحياة بالمساواة للجميع في إطار دولة القانون.
عملت التظاهرات، بوعي وسلمية، على رفع شعار واحد، هو رفض التجديد للرئيس لعهدة جديدة، ليأتي عرضه أكبر من كل التمنيات، لتتضمن كل تلك المطالبات المذكورة، ولكنها جاءت في الوقت الخطأ، بعد أن أحست السلطة بانفراط كلي لذلك العقد، ولأنها لم تشعر، إطلاقاً، بأن العقد غُيّب تماما.
الأمل، بالنتيجة، معقودٌ على انتصار التصالح بين الأجيال الثلاثة، لتكون نتيجته الانتهاء من الاحتقان، والالتفات إلى إجراء إصلاحاتٍ عميقةٍ بإجرائيةٍ تكفل للجميع دولة قانون، تكبر بها الجزائر. الأمل معقودٌ على رمزية تغيير الثقافة السياسية، لتكون جامعة للجزائريين الذين تجمعوا، ذات يوم، في 1954، لدحر الاستعمار الاستيطاني و نجحوا.. الأمل في غد مشرق مشروع، وإن غداً لناظره لقريب.