موسمياً، يسألُني جاد أسئلة محرجة. لكنّه بشكل دوريّ، يصرّ على السؤال نفسه: "ما هو اسم بلدي؟". أجيبُ بتلقائية من حفظ درسه: "لبنان". أصمت في كل مرة لثانيتين أو ثلاث، ثم أردف هامسةً: "وفلسطين". يضحك جاد على الاسم، فيردّده مدندناً وهو عائد إلى غرفته ليلعب: "فلسطين، فلسطين".
أحملُ جنسية ابني كعبء يضغطُ على أمعائي ورئتي وقلبي. قبلَ الإنجاب، كنت أفرح حين أقول إن زوجي فلسطيني، وأتبعها دائماً: "من الناصرة"، لأطمئن محيطي المدهوش حول طائفته. كانَ ذلك جزءاً من مشاركتي في نضالٍ اكتشفته في سني المراهقة المتأخرة. لكن مع ولادة جاد تغيّر الوضع. وبعد دخوله الحضانة ثم المدرسة، واحتفالها الدائم بالوطن والجيش والاستقلال، كثرت الأسئلة التي أواجه غالبيتها بالصمت، وأستبدل أي جواب منطقي عليها بأغنية عن لبنان، غالباً ما يكون النشيد الوطني. ينامُ جاد ويُردّد: "كلّنا للوطن للعلى للعلم". وإن قرر التنويع، يغني بنبرة مرتفعة: "تسلم يا عسكر لبنان يا حامي استقلالنا". هذا هو وطن ابني. لبنان وطنه. هنا ولد، هنا ولد أبوه، هنا ولد جدّه، هنا ولدت أمه، وأجداده. هنا يكبر.
يحملُ ابني الجنسية الفلسطينية. سيكبرُ ويعرف جيداً لماذا يجب أن يناصر حقوق شعبه. سيعرف لماذا أغني له "لاجئ" لأحمد قعبور، و"هدّي يا بحر" قبل أن ينام. لكنّه الآن في لبنان ولبناني. أم أنه ليس كذلك؟ لبنان لن يمنح ابني جنسيتي. هذا البلد الذي يغني له كل يوم، ينظر إليه وإلى أمه كمواطنين ناقصين. لا يمنحني القانون حق إعطائه جنسيتي. يمنحها لمئات الأجانب، بقرار جمهوري، تبعاً لمزاج وحسابات رئيس جمهورية يغادر القصر. يمنحها لفنانة "عالمية تحملُ الأرزة في قلبها". يمنحها للاعب كرة سلة أميركي، لا يعرف من لبنان سوى الملايين التي تدخل جيبه نهاية كل عام. لكنه لا يمنحها لابني. لن يتمكّن ابني من العمل هنا. لن يتمكن من شراء بيت أو أرض هنا.
لا أفرح لهؤلاء الذين يحصلون على الجنسية اللبنانية. أشعر بالغضب. أنا التي أخبّئ ابني بين ذراعيّ عند كل اشتباك طائفي في بيروت، مرددة في أذنه كلمات لا يفهمها عن "مدينتنا التي ستكون بخير". أنا التي أركض وزوجي لتأمين حياة لائقة لنا ولابننا في هذه البقعة الجغرافية. أنا التي أمسك بيده التي تكبر ونمشي على كورنيش بحرنا، وأروي له قصصاً سمعتها من أبي عن هذه البلاد التي تحبّ سكانها، والتي تفتح حضنها للجميع.
تقفل هذه الأرض ذراعيها أمام ابني وأمام آلاف الأطفال المولودين لأمهات لبنانيات. فلسطين بلد ابني، لكنه لبناني. ولد هنا، يكبر هنا.. هذه بلادنا. هذه بلاد ابني.
اقرأ أيضاً: غداً أو بعده