هل أتاك حديث "الضم"؟
كان يوم الفاتح من يوليو/ تموز الجاري موعداً ضربه رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، وشدّد عليه مراراً وتكراراً، لضم الغور والمستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، إنفاذاً لوعد دونالد ترامب، المعلن عنه من البيت الأبيض مطلع العام الحالي، وتطبيقاً لما تعهد القيام به المتهم بالفساد والرشوة وخيانة الأمانة، خلال ثلاثة انتخابات عامة، أجراها رئيس حكومة المستوطنين في غضون عام واحد.
وصف نتنياهو وعد ترامب بأنه فرصة لن يجود بها الزمان مرة أخرى، ستندم عليها الأجيال المقبلة إن تم تفويتها، كما وصف يوم الضم الموعود بأنه الأكثر أهمية في حياة الدولة العبرية منذ قيامها عام 1948، وقال إنه سيصنع حدثاً فارقاً في التاريخ اليهودي، وسيترك إرثاً سوف يسجل باسمه حصرياً، صانعا للنكبة الثانية، ويخلّد ذكراه زعيماً لا يقل أهمية عن بن غوريون صانع النكبة الفلسطينية الأولى. غير أن الضم لم يحدث، ولم يقعقع صوت التاريخ محتفلاً بتحقق الواقعة التي تلهّف المستوطنون عليها بشدة، وغاب نتنياهو عن السمع وسط حالة وجومٍ وصمتٍ ثقيليْن، لم يعتد عليهما من كان يمنّي نفسه بخروج الآلاف إلى الشوارع هاتفين بحياته، فبدا المتغطرس المعربد كمن أكل عنقوداً من الحصرم، أو قل كمن خاض حرب حياته، دفع فيها ثمناً باهظاً، ولم يجن سوى الخسارة، فما الذي حدث إذاً؟
حدث ما لم يحسب المهووسون بالضم حسابه جيداً، ولم يضعوه في كفّة الميزان سلفاً، بفعل سكرة القوة المفرطة التي تضاعف مفعولها لدى نتنياهو أكثر، بعد أن أسقاه ترامب، حتى الثمالة، كؤوساً إضافية مترعة، حيث تجلت الرعونة وعدم الاتزان لدى الليكوديين وغلاة المتطرّفين في مظاهر الاستخفاف وحالة الإنكار التي أبداها تكتل "ولا شبر"، إزاء ما سيثيره قرار الضم من ردود أفعال، وما يتسبّب به من أضرار، ربما تصل إلى حد فرض عقوبات أوروبية محتملة.
بكلام آخر، جرت مياه كثيرة في النهر خلال موسمي الشتاء والربيع الفائتين، أي بين إعلان ترامب عن صفقته أوائل هذا العام وموعد الضم قبل أيام، حيث تغيرت معطيات عديدة، وتبدلت مواقف كثيرة لدى المخاطَبين بهذا القرار الاستفزازي، سيما مواقف من لم يؤخذوا بجدّيةٍ كافية، ولم يتم وضعهم بعين الاعتبار أبداً، من فلسطينيين مستضعفين، وعرب مطبّعين، وأوروبيين بلا حول ولا قوة، ورأي عام دولي بلا أسنان.
في غضون الأشهر القليلة الفائتة، تكوّنت جبهةٌ دوليةٌ شاملةٌ ضد الضم، غير مسبوقة، على أرضية رفض فلسطيني مبدئي حازم، دخل عليها الأردن برشاقة، بعملية دبلوماسيةٍ كفوءةٍ وذات مصداقية، شارك فيها الاتحاد الأوروبي بفاعلية، ناهيك عن الأمم المتحدة، الفاتيكان، جو بايدن، بوريس جونسون، ودول أخرى في الشرق والغرب، الأمر الذي يبدو أنه فعل فعله لدى إدارة ترامب، من دون أن يُسقط بيد نتنياهو المنقطع، بفعل جنون القوة، عن واقعٍ آخذ في التشكل حثيثاً تحت سمعه وبصره.
تحت تأثير هذه المتغيرات، بدأت تعتري الموقف الإسرائيلي ذاته مظاهر من التحفظ والتردّد والاعتراض العلني على سياسة نتنياهو الطائشة، سيما من الجيش وأذرع الامن، وشركائه في الحكومة، الكنيست، ومراكز الأبحاث الاستراتيجية، الإعلام وقادة الرأي العام، الذين رأوا أن عملية الضم توقع أضراراً أكثر مما تجلبه من منافع، الأمر الذي أفقد "الساحر" سحره، قوة زخمه، زعزع مكانته، وأقعده مذموماً. باعتبار أن قرار الضم بيد واشنطن وليس بيد تل ابيب، فقد انصبت الحملة الدبلوماسية المتصاعدة باتجاه الإدارة الأميركية التي تبدلت أولوياتها في حمأة الجائحة وآثارها الاقتصادية المدمرة، وانصرفت اهتماماتها نحو معالجة الاحتجاجات الواسعة على مقتل جورج فلويد، ناهيك عن نتائج الاستطلاعات التي تُظهر تضاؤل فرص تجديد ولاية ترامب، الأمر الذي أعاد إنتاج الرجل المتهور في البيت الأبيض على نحوٍ أكثر تعقلاً ومسؤولية، وأقل سذاجة في تعاطيه مع شؤونه وشجونه الكثيرة.
مع أن الاحتلال باقٍ على حاله، إلا أنه يمكن، في اللعبة الصفرية القائمة، اعتبار فشل الضم، ولو مرحلياً، نصراً صغيراً، لكنه شديد الأهمية، أعاد قضية فلسطين إلى الطاولة، فتح نافذة فرص جديدة، أمات "صفقة القرن" واقعياً، وبدّد سانحة إسرائيلية يحتاج إحياؤها سنوات طويلة، سانحة لن تتحقق بلا ضوء أميركي أخضر، سيتعذر الحصول عليه أكثر مع مرور الوقت.