هل تتجدّد الثورة في ليبيا؟
منذ اندلاع ثوراث الربيع العربي، ابتداء بتونس ومصر، وليس انتهاء بسورية، لحقت ليبيا بهذا الركب لتكون ثورة فبراير في 2011 ثورة ضد الطغيان والاستبداد والفساد، والتي أطاحت عهدا من الديكتاتورية والطغيان، حكم البلاد واستولى عليها أربعة عقود متتالية. وما إن بدأت هذه الثورة تضع لبناتها في بناء الدولة، حتى بدأ عرّابوا الثورات المضادّة في الداخل والخارج الكيد لها من كل جوانبها، السياسية والاقتصادية، بل وحتى الاجتماعية، ليصل هذا الكيد والتضييق إلى قوت المواطنين، وعلى حساب معيشتهم. تلك مسارات المرحلة السابقة من عمر الثورة الليبية، وأبجدياتها، بكل اختصار ووضوح.
مُقومات تصحيح الثورة أو حتى تجدّدها قائمة، خصوصاً في ظل المطالبات الشعبية بالإصلاح
لم تكن تلك السنوات من عمر الثورة كافية لإنقاذها من عبث المفسدين، والمصلحجيين في الداخل، وعبث أعداء الثورات العربية من الخارج وتدخلهم. والناظر إلى ذلك بكل تجرّد يرى من الطبيعي أن يحدث ما حدث في هذه المرحلة من عمر الثورة، لعدة عوامل، أبْرِزها:
أولاً: لم تكن ثورة فبراير محصورةً في أشخاص مُعينين، ولا أسماء ولا قيادات سياسية، ولا حتى عسكرية محدّدة ومعروفة، وإنما كانت شعبيةً بامتياز، حتى أنه، في أحيان كثيرة، يكون أصحاب السياسة تبعاً للشارع ومتطلباته، لاالعكس، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، مرّت الحياة السياسية في ليبيا لأربعة عقود ونيف إلى تصحّر على المستويين، السياسي والقيادي، في البلاد.
ثانياً: منذ بدء العملية السياسية والمرحلة الانتقالية بعد نجاح الثورة، وتَغَلُبها على النظام السابق في 2011، سارت هذه العملية في جو من التشتت والتخبط، نتيجة الضعف الذي تعاني منه النخب التي لم تفلح في نبذ خلافاتها وتغليب المصلحة العليا للبلاد؛ بل نراها على النقيض من ذلك، حيث كرّست الصراعات السياسية والاختلافات التوجهية، ابتداء من التجربة السياسية الأولى بعد الثورة المتمثلة في المجلس الوطني الإنتقالي، الذي شكّل في خضم الثورة لإدارة شؤون البلاد، وليس انتهاءً بالمؤتمر الوطني العام في 2012، والبرلمان من بعده في 2014، وصولاً إلى اتفاق الصخيرات والمجلس الرئاسي المنبثق عنه في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2015.
لم تكن ثورة فبراير محصورةً في أشخاص مُعينين، ولا أسماء ولا قيادات سياسية، ولا حتى عسكرية محدّدة ومعروفة، وإنما كانت شعبيةً بامتياز
ثالثاً: التدخلات الخارجية السلبية، والأجندات الأجنبية، الإقليمية منها والدولية التي يُذكيها المحور الداعم للثورات المضادّة التي أنتجت الاختلاف والتنازع السياسي الحاد، وصولاً إلى الاقتتال، تحت جلابيب مختلفة من التوجهات والمتناقضات التي في حقيقتها محاولة العودة إلى حكم العسكر والفرد، وطمس الثورات العربية ككل، وليبيا جزء من ذلك؛ بل وساهمت هذه الأجندة، الإقليمية منها والدولية، في ضرب وحدة الصف الليبي ككل، لينتج عنه مشروع انقلابي على الثورة، امتداداً للخريطة المرسومة له من المحور الداعم للثورات المضادّة، وامتداداً للانقلابات الأخرى في المنطقة.
رابعاً: استثمار الفساد وإيجاده عبر لوبيات مختلفة ساهم في تفاقم الأوضاع في الداخل، في ظل انعدام الخدمات الأساسية في البلاد، الأمر الذي قد تكون المراحل الانتقالية المتتالية سببا في ذلك من جهة أو أخرى، وكذلك عدم استقرار الوضع السياسي في البلاد، ناهيك عن وجود أرضية مسبقة لهذا الفساد، سواء من الناحية المؤسساتية أو حتى الفردية الشخصية.
استثمار الفساد وإيجاده عبر لوبيات مختلفة ساهم في تفاقم الأوضاع في الداخل، في ظل انعدام الخدمات الأساسية في البلاد
وبالتالي، تقريرا لما سبق، تمرّ الثورة بمنعطفاتٍ خطيرة تنهش في كيانها، ابتداءً من محاولة الانقلاب عليها عبر مشروع انقلابي مكتمل الأركان، والفساد الذي استشرى في بعض مكوّناتها، وكذلك محاولة تغييب القاعدة الدستورية، وتجديد المراحل الانتقالية بآلياتٍ مختلفة، ليس الغرض منها الوصول إلى استقرار دائم في البلاد في أحيانٍ كثيرة، بقدر ما هو محاولة لصنع واقع جديد بآليات خارجية، الدولية منها والإقليمية، لفرض واقع يخدم تلك المصالح لا أكثر، الأمر الذي يفترض على الثورة، بمفهومها الصحيح والشامل، أن تحقق مصالحها، أيضاً، عبر هذا المسار، باعتبار أن نجاحها لا ينفكّ عنه في الواقع. كما أن هذا التوجه لا يعني، بالضرورة، إقفال الباب نحو التجديد في هذه الثورة داخلياً، خصوصا وأنها مرّت بمرحلة مخاضٍ كبيرة، سياسية وعسكرية، يمكن من خلالها إعادة روح الثورة بمنهج حقيقي يكافح الفساد ويبني الدولة، في ظل وجود شركاء دوليين يدعمون مسار الثورات العربية ومناهضة الاستبداد، وكذلك تفعيل الاتفاقيات التي تخدمها، داخلياً وخارجياً، كما هو الحال في الاتفاقية الليبية التركية الموقعة من حكومة الوفاق الوطني وتركيا، والتي لعبت دوراً كبيراً ومهماً، بل ومفصليا، في دعم مسار الثورة وضد عسكرتها.
وفي المجمل، مُقومات تصحيح الثورة أو حتى تجدّدها قائمة، خصوصا في ظل المطالبات الشعبية بالإصلاح، وتوفير الخدمات الأساسية للمواطن، ناهيك عن تعثر العملية السياسية في البلاد، والاستقطاب الحاد بين مكونات البلاد، وانقسامها على نفسها، وغياب تام للدستور، أو حتى مراحل إيجاده، خصوصا أن المراحل الانتقالية ستطول أكثر ربما، وإن وجدت تفاهماتٍ بين المجلس الرئاسي والبرلمان المنقسم أخيرا تظل تفاهماتٍ تتجاذبها المصالح الدولية والإقليمية، لا تبنى عليها سياسة دائمة للبلاد، يمكن التعويل عليها في بناء الدولة بروح الثورة، لا روح الانقلابات العسكرية.