27 أكتوبر 2024
هوامش على "الجماعة"
شهد الفضاء السياسي والإعلامي المصري، أخيراً، جدلاً ساخناً واسعاً بشأن مسلسل "الجماعة 2"، وقد اندلع بدءاً من الحلقات الأولى للمسلسل، وازدادت وتيرته مع كل حلقة حتى نهايته، ولم يهدأ بعد. وشمل تراشقاتٍ وتجاذباتٍ عديدةً بين مؤيّدي مضمون المسلسل ورافضيه، وبشأن الوقائع التاريخية التي وردت فيه، لاسيّما وأنّه تعرّض لفترة حاسمة في تاريخ مصر الحديث، والتي سبقت الانقلاب العسكري الذي قام به تنظيم الضبّاط الأحرار على الحقبة شبه الليبرالية في 23 يوليو/ تموز 1952، والفترة التي تلته أيضاً، ومراحل العلاقة المُلتبسة بين الضبّاط وجماعة الإخوان المسلمين، خصوصاً المُفكّر صاحب الشخصية الجدلية المُركبّة، سيّد قطب.
تعتبر الأعمال الفنية إحدى ساحات المواجهة بين الإسلاميين وخصومهم في مصر، في العقود الماضية، حيث جاءت مسلسلات درامية وأفلام سينمائية كثيرة، أقرب إلى تصفية حسابات أيديولوجية وتاريخية مع الإسلاميين، عبر خروجها عن حدّ الموضوعية وجنوحها نحو رسم صورة نمطية عنهم، حملت قدراً كبيراً من التشويه، وأمثلها طريقة هو ما تجاهل الإسلاميين، وأسقطهم تماماً من الصورة، كما كان في العمل الدرامي الشهير في تاريخ الدراما المصرية "ليالي الحلمية"، والذي تعرّض في جزئه الأول لفترة الأربعينيات في حي الحلمية القاهري، وذِكر جميع الطبقات الاجتماعية، بدءاً من العمّال والبسطاء، واللصوص، والراقصات (العوالِم)، ومروراً بالأفندية والموظّفين، وكذا "الباشوات" و"الهوانم"، ومثّلت تلك الشخصيات جميع التيارات الفكرية، من الماركسيين إلى الليبراليين إلى الضبّاط الوطنيين، إلا أنه أغفل تماماً أي إشارة لجماعة الإخوان المسلمين، على الرغم من أن حي الحلمية كان معقل الجماعة الرئيسي حينذاك، في فترة ذيوعها وانتشارها، وكانت سقطةً كبيرة نالت من روعة العمل.
على الرغم من الجهد العلمي الكبير، والتأصيل التاريخي لأحداث مسلسل "الجماعة"، إلا أنّه،
في أحيان كثيرة، خرج عن حدّ الموضوعية، وسقط في وهدة التوظيف السياسي والأيديولوجي، عندما حرص، في جزئيْه، على تصوير جماعة الإخوان المسلمين، في التوصيف النهائي، جهادية عنيفة، العنف آليتها لتحقيق أهدافها، وإلحاحه على فكرة تجذّر العنف في بنيتها الفكرية، منذ نشأتها واستمراره معها، على الرغم من أنّ هناك فارقاً كبيراً بين الأدبيات الإخوانية ونظيرتها الجهادية، فقهياً، وفكرياً. إلى جانب تركيزه الشديد على انحرافات "النظام الخاص" والأعمال الإرهابية، والاغتيالات التي ارتكبها بعض عناصره، وصراعات رجاله داخل الجماعة، مع إغفال الدور الوطني الذي قام به ضدّ الاحتلال البريطاني في مصر، والخطر الصهيوني في فلسطين.
كان الجانب الأسوأ في المسلسل تناوله، باختزال شخصية سيّد قطب، فقد صوّره العمل شخصية "راسبوتينية" مُعقَّدة، مسكونةً بجنون العظمة والأمراض النفسية، تبحث عن دور بأي شكل، فضلاً عن تقديمه "زعيماً تكفيرياً"، يُعنى بالتكفير والتنظير له، وهو أمر يجافي الواقع، فقد كان سيّد قطب مُفكّراً جدلياً من الطراز الأول، مرّت حياته بمنحنياتٍ، وتعرّجاتٍ، وتحوّلات فكرية كبيرة وعديدة، كما أنّ أطروحته الأخطر "معالم في الطريق" خرجت في لحظة قمعية "محنوية" غير طبيعية، من رحم السجن وغياهب الزنازين، كما هو حال كلّ الأفكار الضالّة والمنحرفة، وفي مواجهة دولة بوليسية "تنينية" تغوّلت على المجتمع، وسحقته تحت سنابكها، قامت، في نهايةٍ مأساوية، بإعدامه، وهي خطوة استئصالية شديدة الخشونة، ما زالت عواقبها الوخيمة تتداعى.
الطريف واللافت هو الحملة الشعواء العاتية، من بعضهم من ذوي الخلفية الناصرية، على المسلسل ومؤلّفه، على ما ورد فيه عن علاقة قيادات تنظيم الضبّاط الأحرار، خصوصاً جمال عبد الناصر، بجماعة الإخوان المسلمين، وبسيّد قطب في مرحلة سبقت انضمامه للإخوان المسلمين، على الرغم من أنّ كبار الضبّاط الأحرار قد ذكروا صراحة تلك العلاقة ومستواها ومراحلها بالتفصيل في مذكّراتهم (خالد محي الدين ومذكراته "الآن أتكلّم")، عندما كان الضبّاط الشبّان في مرحلة البحث عن ظهير سياسي داعم لهم، وقد وجدوا ضالتهم في جماعة الإخوان المسلمين، لقاسمٍ من المصالح المشتركة جمع بينهما، ثمّ تطوّرت مراحل العلاقة، كما هو معروفٌ لأسباب يطول شرحها، من التحالف حتى الصدام. وتثير هذه الحملة دلالات عديدة، بشأن النظرة التي يحملها مُثقفون كثيرون للإسلاميين على اختلاف ألوانهم، خصوصاً جماعة الإخوان، حيث جاءت هذه النظرة غالباً بنزعةٍ اختزالية، تضع الإسلاميين في سلّة واحدة كتلة مصمتة، وتحمل، ضمناً أو صراحة، تصوّراً إقصائياً للإسلاميين خارج إطار الذاكرة التاريخية الوطنية، وتعتبرهم طرفاً دخيلاً لا أصيلاً في مكوّنات المشهد التاريخي، أو مجرّد نبتٍ غريبٍ في التربة الوطنية، وتستنكر بصورة قطعية، وجود أي دور لهم في التاريخ السياسي المصري. ويذكر كاتب هذه السطور جيداً أنّه، منذ أكثر من سبع سنوات، سمع بأذنيْه مُثقّفاً كبيراً معروفاً بنزعته العلمانية المتطرّفة، وهو يستنكر بشدّة إنتاج عمل درامي عن الإخوان المسلمين (لم يكن الجزء الأول من "الجماعة" قد عُرِضَ) عندما قال حرفياً: "بلغت بنا الردّة الفكرية أننّا الآن ننتج مسلسلاً عن شخص إرهابي مثل حسن البنّا". وتحمل هذه العبارة دلالات بارزة وصادمة، غير خافية عن مجرّد إعداد عمل درامي عن فصيل سياسي، وتخرج عن أنها حالة فردية إلى نزعةٍ مستشرية، بدرجاتٍ متفاوتةٍ في الوسط السياسي والثقافي المصري، فمهما بلغت مساحة الاختلاف مع الإسلاميين، وأيّاً كان تقييم دورهم، سلباً أو إيجاباً، فإنهم يظلّون في المحصّلة النهائية جزءاً من تاريخ مصر السياسي والاجتماعي.
لولا نزعة التوظيف السياسي التي شابته، لكان مسلسل "الجماعة" عملاً تاريخياً من شأنه تقديم صورة وثائقية للأجيال الجديدة، عن حقبةٍ تاريخية مهمّة في تاريخ مصر الحديث. إلا أنّه،
وعلى الرغم من كل المآخذ عليه، فقد ألقى حجراً في مياه راكدة، بإثارة هذه الحالة الجدلية عبر فتح أبواب المقارنة بين مشاهد الماضي والحاضر، بين الفصول القديمة والجديدة في الأزمة الطويلة والممتدّة بين طرفي الثنائية الصراعية المنكودة في مصر (دولة يوليو 1952 – تنظيم الإخوان المسلمين)، التي باتت تُعيد إنتاج دورتها بين الكرّ والفرّ، من الهُدنات إلى الصدامات. وهو ما يكشف عن إعادة التاريخ نفسه، فتأتي المرّة الأولى مأساة، بينما تأتي الثانية ملهاة، وفقاً للمقولة الماركسية، بسبب عدم استيعاب الطرفيْن دروس الماضي، وارتكاب الأخطاء نفسها. فلم يدرك الإسلاميون"الحركيون" أنّ عصر التنظيمات الحديدية ولّى، وأنّ الصدام مؤكَّد وحتمي بين أي دولةٍ وأي تنظيم يقوم على فكرة "الكيان الموازي" الذي يعمل على اختراق مؤسسات الدولة، وتشكيل تجمعّاتٍ حركيةٍ داخلها يربطها تنظيم هرمي، يسعى إلى ابتلاع الدولة، وتقديم نفسه بديلاً لها. هذا بالتزامن مع انتشاره وتغلغله في قلب المجتمع. وفي المقابل، لم تدرك الدولة أنّ المواجهة الصفرية، والحلول الاستئصالية، لم تؤتِ يوماً أُكُلها، بل أتت بنقيض مقصدها، فمن شأنها العمل على نشر الغلوّ والتطرّف والأفكار الراديكالية، وتدفع الطرف الآخر إلى الانغلاق على الذات، وهي مشاهد تكرّرت بصورة سقيمة طوال العقود الماضية.
تعتبر الأعمال الفنية إحدى ساحات المواجهة بين الإسلاميين وخصومهم في مصر، في العقود الماضية، حيث جاءت مسلسلات درامية وأفلام سينمائية كثيرة، أقرب إلى تصفية حسابات أيديولوجية وتاريخية مع الإسلاميين، عبر خروجها عن حدّ الموضوعية وجنوحها نحو رسم صورة نمطية عنهم، حملت قدراً كبيراً من التشويه، وأمثلها طريقة هو ما تجاهل الإسلاميين، وأسقطهم تماماً من الصورة، كما كان في العمل الدرامي الشهير في تاريخ الدراما المصرية "ليالي الحلمية"، والذي تعرّض في جزئه الأول لفترة الأربعينيات في حي الحلمية القاهري، وذِكر جميع الطبقات الاجتماعية، بدءاً من العمّال والبسطاء، واللصوص، والراقصات (العوالِم)، ومروراً بالأفندية والموظّفين، وكذا "الباشوات" و"الهوانم"، ومثّلت تلك الشخصيات جميع التيارات الفكرية، من الماركسيين إلى الليبراليين إلى الضبّاط الوطنيين، إلا أنه أغفل تماماً أي إشارة لجماعة الإخوان المسلمين، على الرغم من أن حي الحلمية كان معقل الجماعة الرئيسي حينذاك، في فترة ذيوعها وانتشارها، وكانت سقطةً كبيرة نالت من روعة العمل.
على الرغم من الجهد العلمي الكبير، والتأصيل التاريخي لأحداث مسلسل "الجماعة"، إلا أنّه،
كان الجانب الأسوأ في المسلسل تناوله، باختزال شخصية سيّد قطب، فقد صوّره العمل شخصية "راسبوتينية" مُعقَّدة، مسكونةً بجنون العظمة والأمراض النفسية، تبحث عن دور بأي شكل، فضلاً عن تقديمه "زعيماً تكفيرياً"، يُعنى بالتكفير والتنظير له، وهو أمر يجافي الواقع، فقد كان سيّد قطب مُفكّراً جدلياً من الطراز الأول، مرّت حياته بمنحنياتٍ، وتعرّجاتٍ، وتحوّلات فكرية كبيرة وعديدة، كما أنّ أطروحته الأخطر "معالم في الطريق" خرجت في لحظة قمعية "محنوية" غير طبيعية، من رحم السجن وغياهب الزنازين، كما هو حال كلّ الأفكار الضالّة والمنحرفة، وفي مواجهة دولة بوليسية "تنينية" تغوّلت على المجتمع، وسحقته تحت سنابكها، قامت، في نهايةٍ مأساوية، بإعدامه، وهي خطوة استئصالية شديدة الخشونة، ما زالت عواقبها الوخيمة تتداعى.
الطريف واللافت هو الحملة الشعواء العاتية، من بعضهم من ذوي الخلفية الناصرية، على المسلسل ومؤلّفه، على ما ورد فيه عن علاقة قيادات تنظيم الضبّاط الأحرار، خصوصاً جمال عبد الناصر، بجماعة الإخوان المسلمين، وبسيّد قطب في مرحلة سبقت انضمامه للإخوان المسلمين، على الرغم من أنّ كبار الضبّاط الأحرار قد ذكروا صراحة تلك العلاقة ومستواها ومراحلها بالتفصيل في مذكّراتهم (خالد محي الدين ومذكراته "الآن أتكلّم")، عندما كان الضبّاط الشبّان في مرحلة البحث عن ظهير سياسي داعم لهم، وقد وجدوا ضالتهم في جماعة الإخوان المسلمين، لقاسمٍ من المصالح المشتركة جمع بينهما، ثمّ تطوّرت مراحل العلاقة، كما هو معروفٌ لأسباب يطول شرحها، من التحالف حتى الصدام. وتثير هذه الحملة دلالات عديدة، بشأن النظرة التي يحملها مُثقفون كثيرون للإسلاميين على اختلاف ألوانهم، خصوصاً جماعة الإخوان، حيث جاءت هذه النظرة غالباً بنزعةٍ اختزالية، تضع الإسلاميين في سلّة واحدة كتلة مصمتة، وتحمل، ضمناً أو صراحة، تصوّراً إقصائياً للإسلاميين خارج إطار الذاكرة التاريخية الوطنية، وتعتبرهم طرفاً دخيلاً لا أصيلاً في مكوّنات المشهد التاريخي، أو مجرّد نبتٍ غريبٍ في التربة الوطنية، وتستنكر بصورة قطعية، وجود أي دور لهم في التاريخ السياسي المصري. ويذكر كاتب هذه السطور جيداً أنّه، منذ أكثر من سبع سنوات، سمع بأذنيْه مُثقّفاً كبيراً معروفاً بنزعته العلمانية المتطرّفة، وهو يستنكر بشدّة إنتاج عمل درامي عن الإخوان المسلمين (لم يكن الجزء الأول من "الجماعة" قد عُرِضَ) عندما قال حرفياً: "بلغت بنا الردّة الفكرية أننّا الآن ننتج مسلسلاً عن شخص إرهابي مثل حسن البنّا". وتحمل هذه العبارة دلالات بارزة وصادمة، غير خافية عن مجرّد إعداد عمل درامي عن فصيل سياسي، وتخرج عن أنها حالة فردية إلى نزعةٍ مستشرية، بدرجاتٍ متفاوتةٍ في الوسط السياسي والثقافي المصري، فمهما بلغت مساحة الاختلاف مع الإسلاميين، وأيّاً كان تقييم دورهم، سلباً أو إيجاباً، فإنهم يظلّون في المحصّلة النهائية جزءاً من تاريخ مصر السياسي والاجتماعي.
لولا نزعة التوظيف السياسي التي شابته، لكان مسلسل "الجماعة" عملاً تاريخياً من شأنه تقديم صورة وثائقية للأجيال الجديدة، عن حقبةٍ تاريخية مهمّة في تاريخ مصر الحديث. إلا أنّه،