هوامش في حياة الغزالي وابن رشد
ويكفي لتوضيح هذه العبارات الاختلاف الاجتماعي والفكري بين اثنين من أهم فلاسفة وعلماء الدين الإسلامي وهما الغزالي وابن رشد.
نشأة الغزالي:
بدأت بالتفتيش يا صديقي في أوراق التاريخ حتى تعثرت عند القرن الخامس عام 450 هجري، راحت الذاكرة إلى مدن إيران، وبقرية صغيرة تُسمى طوس، والمعروفة في الوقت الحالي باسم "مشهد".. في العصر العباسي، بيت ضيق لأسرة فقيرة تكاد تكون معدمة، رب البيت يعمل في الغزل ويميل في عقيدته إلى التصوف، خرج من بين جدرانه هذا الصبي الذي دخل منذ صغره معركة قضى فيها شبابه وشيخوخته، وهذا الجدال لم ينته حتى اليوم.
ولد أبو حامد الغزالي وكان لهذا الشاب نصيب من العقل الناقد والروح المقبلة على المعرفة، فدرس الفقه الشافعي واتخذ من الأصولية اتجاهه، حتى أصبح الإمام الغزالي الشافعي الأصولي الأشعري.
وكما عرفنا العصر العباسي الذي ظهر فيه كل شيء وانبعثت منه معظم الاتجاهات الفكرية، سواء تميل إلى المجون أو الزهد، أو كانت بين الإلحاد والإيمان، فتأثر فئة من المسلمين بما جاءهم من الحضارات حتى أقبلوا على الفلسفة اليونانية بما تحمله من أقسامها الشاملة، ولم يخضعوها للنظرة الدينية، لذلك انتشرت ظاهرة التشكيك في الدين الإسلامي من بعض العلماء الذين وضعوا المنهج العقلاني لتفسير الوجود والخلق وفلسفة الإلهيات.
لكن الغزالي لم يكتف بالمشاهدة، لذلك عكف على دراسة هذه المناهج الفلسفية وغرق في معرفتها لمدة عامين حتى أتقنها، ثم بدأ بكتابة أفكاره، وبدأ بمهاجمتهم بمجموعة كتب من ضمنها كتاب "مقاصد الفلاسفة"، فأظهر فيه منهجهم، ووضح أقسام ومداخل الفلسفة، ولكن هجومه على فلاسفة المسلمين لم يتوقف عند هذا الحد..
فأكمل في كتابه "المنقذ من الضلال" يقول: "إني رأيتهم أصنافاً ورأيت علومهم أقساماً وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم وصمة الكفر والإلحاد". وبعدها كفَّر فلاسفة الإسلام وخاصة المهتمين بفلسفة الإلهيات، فقالها صريحةً في كتابه "المنقذ من الضلال": "فوجب تكفيرهم وتكفير شيعتهم من المتفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وأمثالهما".
وعلى الرغم من عنفوان الردود التي واجه بها الغزالي الاتجاه العقلاني الذي انبثق خيطه في تلك الآونة، إلا أن صاحبنا الإمام هو أول عالم دين يحلل الفلسفة بتلك النظرة التفصيلية التي جعلته يتعمق في أقسامها ويحللها إلى مقبول ومرفوض تحت الميكروسكوب الديني.
وكان الغزالي أستاذاً في المدرسة النظامية - مدرسة في العصر العباسي تدرس علوم الدين على المذهب الشافعي - ببغداد لمدة 4 أعوام، وأقبل عليه العديد من طلاب العلم، حيث أطلق عليه البعض لقب "زين الدين" و"مفتي الأمة"، وكان في المجلس الواحد يدرس تحت يده 400 طالب، ينشر فيه العقيدة الأشعرية ويدرس المذهب الشافعي..
الغزالي ودوامات الفكر: (المتكلمون - الباطنية - الفلسفية - الصوفية)
يروي في كتابه "المنقذ من الضلال" تنوع مراحل تفكيره، بأنه بدأ بمرحلة الشك بشكل لا إرادي في كل شيء، في الحواس والعقل وكيفية قدرته على الاستيعاب والفهم، وبدأ بهذه الترهلات الفكرية، فمر ابتداء بمرحلة المتكلمين فلم يشعر بمنهجهم وهاجمهم، ثم التحق بعدها بالطائفة الباطنية، لكنه لم يجد ضالته لكنه انتقدها في كتابه "فضائح الباطنية"..
أصبح فيلسوفاً وهو غير راض عن الفلسفة، ولم يشعر بأنه وجد الشيء الذي يبحث عنه، وهدم منهج الفلاسفة والاتجاه العقلاني في كتابه "تهافت الفلاسفة" حيث قدم بوضوح فشل الفلسفة في معرفة جواب عقلاني ومنطقي عن طبيعة الخالق، فمن المستحيل تطبيق قوانين الجزء المرئي من الإنسان لفهم طبيعة الجزء المعنوي وبذلك تكتفي الفلسفة بالأمور القابلة للقياس كالطب والفيزياء.
لكن مع كونه أستاذاً في المدرسة النظامية قرأ العديد من كتب التصوف وتأثر بأفكارهم، وأخيراً التقى بما ينقصه، فبدأ التفكير في الزهد وعزم على ترك التدريس في المدرسة النظامية، حيث أحس بنفسه يفعل ذلك ليس ابتغاء وجه الله إنما يفعله للصيت والمكانة بين الناس، فاستعد للعزلة..
وبالفعل اعتزل الناس لمدة 11 عاما ورحل عن بغداد إلى دمشق ثم القدس ومن بعدها تنقل بضواحي فلسطين حتى استقر لفترة بمنطقة الخليل وأطلق زمام ناقته إلى مكة، ثم انتهى به المطاف إلى المدينة.. فكتب الإمام الغزالي خلاصة تجاربه في هذه الرحلة الروحانية بأهم كتبه التي تعد مرجعاً في التصوف بأيامنا، كتاب "إحياء علوم الدين"..
وصف أحد فقهاء بغداد الغزالي بعد عودته: "دخل أبو حامد بغداد، فقوّمنا ملبوسه ومركوبه خمسمائة دينار، فلمّا تزهد وسافر وعاد إلى بغداد، فقوّمنا ملبوسه خمسة عشر قيراطاً"..
تأثر الغزالي بأساتذته في التصوف مثل الشيخ الفارمذي وأستاذه بالفقه الشيخ أبو المعالي الجويني، كما أنه ترك بصمته في رسم أفكار الكثير وخاصة في الزهد والتصوف، كعبد القادر الجيلاني وأبو عبد الله الجيلي وابن العربي..
ثم انتقل أحد فلاسفة الإسلام، شاء هو أم أبى، إلى رحمة الله، بعدما عاد إلى طوس مكان مولده عام 505 هجري.
ابن رشد في مهد التفكير:
وبما أنك تحملت معي حتى وصلنا لوفاة الغزالي، فسأنتهز هذه الفرصة لكي نسبح في بحر الزمن حتى نصل إلى عام 520 هجريا، ونركب ناقة الماضي لنترك إيران والشرق الأوسط بعاداته وتقاليده وتهبط طائرتنا في أوروبا حيث الأندلس..
العائلة في قرطبة تبدو عليها معالم الثراء وكل أفرادها انشغلوا بالفقه وعلومه، حيث كان الأب أستاذا للفقه مقربا للخليفة.. بين أحضان الثقافة الأوروبية وذلك النوع من الغنى الممتد بين جوانب هذا البيت وُلد averroes الأوروبي أو ابن رشد العربي..
وكالمعتاد فإنّ الأسرة تسوقه لتعلم مذهبها، فدرس الصبي المذهب المالكي وبدأ حياته على العقيدة الأشعرية، لكنه وقع في غرام العلوم المادية المنتشرة في تلك المنطقة، تأثراً بحضارات الإغريق وغيرهم، فبدأ يتنقل بين كتب الفيزياء والفلك والطب والفلسفة.
فتأثر في الاتجاه الفلسفي بالفارابي وابن باجة، حيث قام بتعديل بعض النظريات والمفاهيم الخاصة بالموجودات، وبدأ الشاب بأول خطوة في نفس الطريق الذي قطع فيه أرسطو وأفلاطون أميالاً، فدافع عن الفلسفة في العديد من كتبه.
وعلى عادة عصره أو كل العصور نشأ بمجتمع "فقهاء البلاط"، حيث تقرب علماء الدين والفقهاء للحاكم، حتى سيطروا على الفكر والسياسة وكافة طرق الحياة.
وانجرف ابن رشد في التيار، فأصبح من المقربين للخليفة الموحدي أبي يعقوب بن يوسف في مراكش بالمغرب، حيث عينه طبيبه الخاص وبعدها أطلق له زمام القضاء، فأصبح قاضي قرطبة، وبذلك ظل يتنقل بين مراكش والأندلس حتى وفاة الخليفة الموحدي أبي يعقوب، وجاء ابنه المنصور، ومعه كبرت مكانة ابن رشد، ومنها زادت كراهية البعض، فأقبل الوشاة يُقبحون سيرة ابن رشد لدى الخليفة الموحدي المنصور، فقام الخليفة بعدة أمور ليقضي على ابن رشد فنفاه إلى قرية "اليسانة" - معظم سكانها من اليهود - وأحرق كتبه، ثم أصدر بياناً ينهى فيه المسلمين عن قراءة الفلسفة أو الاهتمام بها.
بين علم النفس وعلم الكون:
اشتمل منهج التفكير لابن رشد على عدة أمور، ربط بها بين العلم الغيبي للإنسان والعلم المادي، فأثارت الخلاف حتى اتهمه البعض بالكفر والإلحاد منها:
1- لا تعارض بين الدين والفلسفة وأن التعمق بالفلسفة يقودك لحقيقة الإيمان.
2- معرفة الحقيقة تسلك لها أي الطريقين: العقيدة أو الفلسفة.
3- قام بتفسير الروح بشكل يعود لرؤيته للمنطق، فيرى أن هناك روحاً إلهية تبقى، وروحاً شخصية تفنى، لذلك فالناس جميعهم يتقاسمون روحاً إلهية واحدة متشابهة.
4- تسوية الخلاف بين فلسفة أرسطو والإسلام.
وأوضح ضرورة المؤاخاة بين الدين والفلسفة في كتابه "فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال"، وكتابه "تهافت التهافت"، الذي دافع فيه عن الفلسفة وهاجم الإمام الغزالي ونقد منهجه حيث قال:
"إذا كان هناك من تعارض، فالتعارض ظاهري بين ظاهر نص ديني وقضية عقلية، وحلها متاح بالتأويل وفقا لقواعد وأساليب اللغة العربية". وقد أشار إلى شيء كهذا الدكتور عبد الحليم محمود في كتابه الإسلام والعقل.
وبعدما أصدر العديد من الكتب في مختلف العلوم، ووضع بكلٍ منها إضافات غيرت رؤية العلماء لفهمها، ظل ابن رشد في هذه المعركة الفكرية حتى توفي عام 595 هجرياً بمراكش.
بالتأكيد أنك لاحظت اختلاف جذور النشأة بين الغزالي وابن رشد والظروف التي أحاطت بكليهما، حيث رشحت كل ثقافة لون طبعها الفريد الذي رسم أفكار وآراء كل منهما؛ وبكل بساطة نجد أن ظروف النشأة الأولى والثقافة المحيطة التي ترسخت بعقولنا منذ البداية والآراء التي يتشكل عليها العقل في مطلع مراهقتنا الفكرية تصبح من الثوابت الصعب تحطيمها، لكي نُقنع أنفسنا بما يصح، حتى وإن كان الصحيح فيما اعتقدناه خطأ.