نهايةَ الشهر الماضي، فتح غاليري "تيت مودرن" اللندني المتخصّص في الفن الحديث، أبوابه على معرضٍ يستمرّ طيلة عامٍ كامل، أي حتى الرابع عشر من تمّوز/ يوليو 2019.
في المعرض الذي أُطلقت عليه تسمية "واقعية فايمار السحرية"، يشاهد الزوّار ما يقارب سبعين عملاً فنياً، بين لوحاتٍ ورسوم على الورق، تأخذهم إلى تناقضات وتعقيدات شهدتها ما تُسمّى مرحلة جمهورية فايمار الألمانية التي قامت في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1919 - 1933). أمّا المناسبة، فهي مرور مئة عامٍ على انتهاء تلك الحرب بهزيمة ألمانيا وتهاوي إمبراطوريات عديدة.
بالنسبة إلى عالم الفنون وصالة "تيت"، تُشكّل المناسبة فرصةً لمشاهدة سلسلة من الأعمال الفنّية التي لم تُعرَض على الجمهور، لا في بريطانيا ولا في أي مكان آخر. ورؤيةُ هذه المختارات سويةً هي عودةٌ إلى السياق الذي تم إبداعها فيه، قبل مئة عام تقريباً.
بدايةً، يكشف المعرض أن عنوان "الواقعية السحرية" الذي وضعه منظمّوه، والمعروف في أيامنا هذه بارتباطه بأدب أميركا اللاتينية، هو في الأصل من ابتكار الناقد ومؤرّخ الفن الألماني فرانتز رو، في كتابه الصادر عام 1925 بعنوان "بعد التعبيرية: الواقعية السحرية"، وهو يصف لوحات الموضوعية الجديدة التي أبدعها فنّانو مرحلة فايمار، وموضوعاتها الأخيولية أو الشبيهة بما يراه النائمون في أحلامهم، تعبيراً عن الانتقال من فن المرحلة الانطباعية، بعواطفه وقلقه، إلى فن واقعي حقيقي وبارد، ومخيّلة غير مستقرّة لمرحلة بين الحربين.
هذه النقلة الأسلوبية في الفن دفع إليها الاضطراب العميق، سياسياً واجتماعياً، بعد الحرب. ففي خضمّ تلك التحوّلات، نالت برلين على وجه الخصوص نصيباً من الفساد والانحدار المعنوي الذي جاء في سياق الانهيار الاقتصادي، ولهذا كانت إعادة تشكيل الحياة المدنية جانباً مهمّاً من جوانب زمن جمهورية فايمار ولحظتها. ويُسلّط المعرض، إلى جانب تقديم الممارسات المتنوّعة لعدد من الفنّانين؛ من أمثال أوتو دكس، وجورج غروش، وماكس بيكمان، الضوء على مواقع التسلية والترفيه مثل السيرك والملهى.
وإلى جانب أعمال هؤلاء الفنّانين البارزين، تُعرض أعمال لفنّانين آخرين أقلّ شهرةً؛ أمثال: رودلف شلكتر، وألبرت بيركل، وجين مامن، وهم من الذين قطع الطريقَ على اكتمال تجاربهم انتهاءُ مرحلة فايمار وصعود "الحزب الاشتراكي الاجتماعي" (النازي) بجدول أعماله المكرَّس لتعزيز الأعمال الفنيّة التي تحتفي بأيديولوجيته السياسية.
حسب وصف ماركوس بولوكس، أستاذ الإنكليزية في "جامعة وسكنسن" الأميركية، فقد "مثّل عالم فايمار الحداثة في أكثر تجلّياتها حيويةً.. كان عالماً مُعجِزاً بطريقة بروزه وسط كارثة، كما كان مُعجِزاً بطريقة تلاشيه وسط كارثة أعظم".
عالمُ الحداثة هذا جسّدته عدّة حركات كبرى في الفنون الجميلة، ظلّت فاعلةً في عشرينيات القرن الماضي. بدأت "التعبيرية الألمانية" قبل الحرب، إلّا أن تأثيرها ظلّ قوياً بعدها، مع أن الفنّانين تبنّوا أساليب معارضة لها، وحركة "دادا" التي وُلدت في زيورخ خلال الحرب، تحوّلت إلى ظاهرة عالمية. تجمَّع فنّانو هذه الحركة وشكّلوا تجمّعات في برلين وكولون وباريس ونيويورك.
وفي برلين كان من أعضائها: جورج غروش، وآنا أوتش، وقد اتّسمت أعمالُهما بعناصر تكعيبية قوية والعناية بالآلات. وشكّل جان آرب وماكس إرنست جماعة دادائية في كولون، وتضمّن معرضٌ لهم هناك عملاً لـ إرنست وُضع بجواره فأس ليكون في متناول أي شخص يريد مهاجمة العمل.
وتشارك فنّانون ذوو أساليب مختلفة بكثير من الموضوعات تظهر في معرض "تيت"، مثل مشاهد الحرب المرعبة، والنفاق الاجتماعي، والفساد الأخلاقي، ومعاناة الفقراء، وعلامات صعود النازية. ومع أن بعض الرسّامين أشار إلى فنّه على أنه تعبير عن "الحقيقة"، إلّا أن النقّاد رأوا فيه سخرية ونقداً يتّسم بمرارة الحياة في جمهورية فايمار. كان الهدف تصوير إحساس بالواقع رأى الفنّانون أنه مفقود في الأعمال التعبيرية الشائعة. وهكذا تغلغلت ما سُمّيت الموضوعية الجديدة في كل التيارات الفنّية في هذه المرحلة.
تميَّز هذا العالم، الذي عاش أربعة عشر عاماً، هي كلّ عمر هذه الجمهورية والثقافة التي ازدهرت فيها، بتفجّر قدرات المثقّفين والفنّانين الإبداعية، فكانت سنواته هي سنوات مدرسة "الباوهاوس" المعمارية وفنونها التطبيقية، ومحاضرات بول كلي التي شكّلت مبادئ علم جمال مرحلة فنّية جديدة، وسنوات الجماعات الطليعية وواقعيتها السحرية التي طغت على الانطباعية والتعبيرية.
كانت أرضاً خصبة للمثقّفين والفنّانين المجدّدين في مختلف الحقول، وبرز خلال هذه المرحلة علماء اجتماع وفلاسفة وعلماء، وتأسست مدرسة "معهد الدراسات الاجتماعية" في فرانكفورت، التي هاجر أقطابها (أدورنو وماركوزة وهوركهايمر وآخرون) بعد صعود النازية إلى الولايات المتحدة الأميركية، وأعادوا إنشاءها تحت اسم "المدرسة الجديدة للأبحاث الاجتماعية".
هذا العالم، حسب تعبير الناقد البريطاني، آلستر سوك، على هامش معرض "تيت"، كان مرحلةً قلقة إلى حدّ بالغ لا يُمكن تخيّلها في التاريخ الألماني؛ "مرحلة شلّها التضخّم المالي الهائل، والقلق الناجم عن انهيار المعايير الأخلاقية"، وشبّه فنّانين من أمثال دكس وغروش بطيور كناري مغرّدة في منجم فحم مجتمعهم، وأنهما "أحسّا ببوادر ظهور قوى الظلام في وطنهما، وقام فنّهما، بكل ما فيه من سمات غرائبية وعناصر كاريكاتورية، بدور شبه وثائقي، كاشفاً "الواقع" الموضوعي القبيح الماثل حولهما".
من جانبها، تقول الناقدة الفنّية، آنا سوتر، إن المعرض "يُرينا عملياً الردود الفنّية الإبداعية المتنوّعة على مرحلة من مراحل الاضطراب السياسي والاجتماعي والاقتصادي، مُوحياً بأن الحياة في أزمنة مثل هذه لا يختصرها اللونان الأسود والأبيض فقط".
معارض "جماعة نوفمبر"، الأكثر شهرة في هذه المرحلة، لم تقتصر على القاعات الألمانية، بل امتدّت إلى روما وموسكو واليابان، وانتمى أعضاؤها إلى حركات وتيارات فنّية أخرى.
والكثير من الرسّامين والنحّاتين والمؤلّفين الموسيقيّين والمعماريّين وكتّاب المسرح والسينمائيّين الذين انتموا إلى هذه الجماعة هم ذاتهم الذين تمّت إدانة فنّهم في الخطاب الشهير لـ أدولف هتلر عام 1935، الذي وصف فيه أعمالهم، وأعمال الفن الحداثي بشكل عام، بأنها "أعمال حمقى أو كذبة أو مجرمين من نزلاء المصحّات العقلية أو السجون".
وقد عمدت السلطات النازية إلى إزالة هذه الأعمال من 32 متحفاً ألمانياً ومصادرة الموجود منها في المجموعات الخاصة، وعرضت ما يقارب 650 عمل منها تراوح بين لوحات ومنحوتات وأعمال طباعية وكتب بطريقة فوضوية متعمدة في مبنى في ميونخ تحت عنوان "الفن المنحط" في عام 1937.
تواصل العرض لمدة ثلاثة شهور، ثم انتقل إلى 11 مدينة ألمانية ونمساوية. بعض هذه الأعمال بيعت في مزادات في سويسرا، وبعضها اقتنته شخصيات مقرّبة من السلطة، وأحرق عددٌ بلغ 4000 عمل فني من هذه الأعمال في الساحات العامة.