واقع يتراجع ومؤامرة تمتد
لو عدنا إلى قراءة الفكر العربي النهضوي في ما أثار من أسئلةٍ تخص إعادة بناء الحاضر، واقعاً وإنساناً، لوجدنا هذا الفكر، بأسئلته الحيّة التي كانت، يعيش اليوم ما يمكن أن نطلق عليها "الغربة في الحاضر" الذي كان من المفترض أن يكون امتدادها الزماني فيه، لا بالنسبة للواقع وحده، وإنما في وجود المثقف العربي الذي نجده وكأن الجرأة لم تعد تواتيه على استعادة تلك الاسئلة، حتى من باب الاستذكار والتذكير، فضلاً عن تجديد الحديث فيها. وسبب هذا يعود، كما يقول هذا المثقف في تبرير الانسحاب منها، إلى الواقع الذي نعيش، والتي، إذا ما أثارها مجدداً، ستكون تداعياتها عليه خطيرة ـ بحسب تقدير هذا المثقف ـ مع أن تلك الأسئلة التي أثيرت، قبل نحو قرن ونصف القرن، كانت أسئلة بحث من إنسان هذه الأمة عمّا ينبغي أن يكون لها من طريق صحيح، وسليم، نحو المستقبل (أو الواقع الذي نحن فيه اليوم). فقد كان هناك "سؤال الحرية" الذي جعل منه المثقف النهضوي، وهو مَن أثاره، سؤال طريق المستقبل الذي يستدعي قول ما ينبغي أن يقال فيه لضمان صيغته الصريحة وصورته الصحيحة. وكان هناك "سؤال الأمة" التي يجمع وحدتها: تاريخاً، ولغةً، وثقافةً، وواقعاً إنسانياً يدفع بها إلى الوحدة هدفاً، والتوحيد غاية، بما يجعل منها أمة، كما كانت في ما لها من تاريخ عريق، موصولة بتواصلها التاريخي، وناهضة بما كان لها من أسباب النهضة. وقد أشار السؤال نفسه إلى أن واقع التجزئة الذي تعيشه ليس من حقائق وجودها التاريخي، والثقافي، والحضاري. وهناك السؤال عن بناء عقل عربي جديد يأخذ بمبادئ المدنية، كما بالقيم الحضارية الجديدة، لا أن يكون، كما أدركته تلك الأسئلة، "عقلاً مرتداً" بأحد عاملين، أو بكليهما معاً: الاستعمار الخارجي، والتخلّف الداخلي، وضمان الآليات التي تُحرّكه بما تفتح له من آفاق العلم والمعرفة، ليكون عقلاً قادراً على الإبداع، ومهيّأً للتقدم.
كما كان هناك السؤال، الجوهر الذي يجمع هذه الأسئلة وينهض بها، وهو: السؤال عن الإنسان بما يمثل من حقيقة حياة وجوهر وجود، فلا حركة للواقع إلا بفعله الإيجابي المنفتح على ما للإنسانية من آفاق جديدة، فلا حقيقة ثقافية وحضارية لهذا الواقع، إلا ما يكون من عطاء عقل هذا الإنسان. وجاء تأكيد الفكر النهضوي العربي عل بناء هذا العقل على أسس معرفية، ثقافية وفكرية، جديدة من شأنها أن تجعل له فعله الإيجابي المتحقق في عملية تغيير الواقع، وإعادة بنائه، بما يؤهله لمواجهة تحديات العصر الذي هو فيه، ويشكل، في الوقت نفسه، منطلقاً لنهضة عربية جديدة تتخطى السؤال الذي أثير حينها: "لماذا تخلّف العرب وتقدّم غيرهم؟".
على مثل هذه الأسس، نشأت "النخبة العربية"، سياسية وثقافية وفكرية، وتكوّنتْ رؤية مستقبلية، وفكراً بانياً للغد، كأمل موعود، وقد تبنّت هذه النخبة، أو أطلقت الدعوة قوية، وواثقة نحو "واقع عربي جديد"، يُحقق، أو يتحقق به/ ومن خلاله "وجود تاريخي جديد" للأمة، لا تتغلب به على ما كان قد خيّم على وجودها من ظلاميات عصر الانحطاط، فحسب، بل والتأسيس لما تقول به، وتخطط له هذه الرؤية المتغلبة على ذلك كلّه، فضلاً عن إطلاق ما للعقل من قوى ذاتية خلاّقة، وبما يمدُّ روح الإبداع والتقدم بمعطيات فعلية.
عبّرتْ هذه "النخبة" عن نفسها/ حلمها أجلى تعبير، بما تمثّل في التجديد الذي شمل مجالات الإبداع والحقائق الحضارية الجديدة كافة، وفي ما كان لها من فكر ناهض بروح امتلكت (أو اكتسبت) من القدرات، ما عزّز قواها الذاتية المبدعة. وقد تمثّل ذلك، أكثر ما تمثّل، في بناء نظام وطني ـ قومي، يأخذ به الحاكم، ويستجيب له الشعب، فضلاً عمّا نشر من فكر تحرري، دعا إلى التخلّص من أشكال التبعية كافة، وأخصّها: التبعية للاستعمار الخارجي الذي استغلّ "الغفلة الانتقالية" التي حصلت في أثناء الحرب العالمية الأولى، والعملية التي صاحبها التحرر من التبعية العثمانية. غير أن هذا كله سيواجه ما شكل "مفاجأة تاريخية" جديدة، سيشهدها الواقع العربي، ويعيش تداعياتها المرّة التي قادت إلى ما نحن فيه، اليوم، من تراجع: فانهيار أول تجربة للوحدة بين قطرين (مصر وسورية) بعد سنوات قليلة من قيامها، وحرب يونيو/ حزيران 1967 التي أحدثت انهياراً شاملاً في كيان الأمة، والتدافع القُطري في إعلان قُطريته، وتعزيزها باختلاق المشكلات بين أقطار هذه الأمة التي راحت تعزز "استقلالها الفردي"، من خلال الانقلابات، وسيطرة العسكر على السلطة، وكان أول ما عمدوا إليه هو: إفراغ شعارات البناء والتحول والتقدم من مضامينها الفعلية، ما أدى إلى "عزل النخبة"، وإنهاء أي دور يمكن أن يكون لها، وتفكيك "الطبقة المتوسطة العربية" الذي ستكون من نتائجه: تفكيك "الواقع المديني" للمدينة العربية، والانتقال بها إلى "حالة الترييف".
وستمضي هذه "السلطة التسلطية" بنهجها هذا، منهيةً كل ما كان، وأوله: أسئلة النهضة، وبؤر انطلاقها، لتكون "استعماراً وطنياً" بامتياز.
ونفاجأ اليوم بما حصل، وإن كان متوقعاً: انهيار هذه الأنظمة والنُظُم بفعل عاملين: الغزو الاستعماري الخارجي، والتحرّك الداخلي المدعوم من الخارج، وقد حققا معاً: انهيار السلطة الحاكمة، وغياب الدولة، مؤسسات وأنظمة وقوانين تُنظّم شؤون الناس والحياة، وانحلال اجتماعي تمثّل في تسييس الدين، من خلال الموجات الدينية ـ الطائفية، والأخرى العرقية، وصعود فئات وعناصر متخلفة (بالقياس إلى منطق التاريخ ومنطق الثقافة)، وتوليها إدارة سدّة الحكم الذي لا تفهم من أصوله وقوانينه سوى "فرض التسلّط"، وبالقوّة المتاحة، على شعوب مشت بها الأنظمة السابقة إلى "الإقرار والقبول" و"التزام الصمت" حيال كل ما تتخذ من قرارات، جاعلة مهمة الشعب "التنفيذ" وليس "المشاركة". ولعلّ الأدهى من هذا كله هو دخول "المؤسسة الدينية" حلبة الواقع، وبمديات من "الاستجابة الشعبية" أقوى، وأفعل تأثيراً من تلك التي للسلطة (وإن كانت غير معزولة عنها)، وهو ما أفرغ "سلطة الحكم" من محتواها، ومن سيطرتها الفعلية على واقع أهم ما يتميّز به اليوم هو: الفوضى، وغَلَبة العنف بأساليبه الهمجية. فهل نقول إن "العصر الحضاري الجديد" الذي كانت الأمة، بكبار مفكريها، قد تطلعت إليه، قبل نحو قرن ونصف القرن، قد ولّى واندثر، قبل أن نشهد شيئاً ممّا كنّا نأمل من تحققاته؟