تقترب الطائرة من الساحل السوري، يعلن ذلك قبطان الطائرة وتمرّ المضيفة كي تتأكد من أننا قد شددنا الأحزمة على خصورنا... ويصبح البحر أقرب إلينا. بقع بيضاء تسبح فيه، ولكنني لم أكن أتبيّن إن كانت سفناَ أو انعكاسات لشيء ما على صفحاته الزرقاء.
لا يَهم. تذكرتُ وأنا أرى الشاطئ أحد الأصدقاء الذين لا يملّون النزول في البحر والتقاط الصور التذكارية معه، ربما كان الآن هنا في مكان ما وقد شاهد الطائرة، فهي تقترب. تقترب...
لكن المسافة تظل بعيدة ليبدو كل شيء في الداخل، هناك، وراء الشريط الذي يرسم حدود الماء مع اليابسة، كذرّات غبار لا شكل له في شمس الظهيرة. حتى، إذا ما صارت إمكانية الرؤية أكبر، ترتفع أبنية المدينة البحرية فجأة، كجدار أصم، لتحجب ما كان ضبابياً...
كأن بيروت، في أول لقاء لنا، تقول لي: "هذا أفضل لك، فلا عين ترى ولا قلب يحزن".
■ ■ ■
لم أرَ شيئاً بالفعل. كنت للحظات أتخيّل أننا حينما سنقترب من الساحل، سأرى ربما بعض المدن السورية القريبة منه.
حتى إن خيالي ذهب إلى أبعد من ذلك، فقد كنت أتوقع أنني سأرى مشاهد من ذلك الركام الذي أصبح هو المدن، كما كنت أرى في الصور التي تُنشر يومياً في وسائل الإعلام المختلفة، وأن أرى معارك دائرة وأصوات النار والبارود وهو ينطلق من ساعد الأخ باتجاه صدر أخيه.
أحياناً نفكر بسذاجة. كان المشهد هادئاً كما أرغب أن يكون في الواقع.
■ ■ ■
"ودخلتُ في بيروت شاهراً حبي". هذه ليست أول مرة، فمنذ بضع سنوات مررت بها في طريقي من مطارها الدولي إلى الشام، كان الوقت ليلاً ولم تحتفظ ذاكرتي بأي انطباع عنها، في هذه المرة سأقيم فيها أسبوعاً كاملاً.
حدثني سائق سيارة الأجرة عن التآخي الإسلامي المسيحي فيها حينما أشار إلى المسجد الضخم الذي بناه الحريري الأب معانقاً كاتدرائية تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر فيقطع عليها الهواء.
ثم حدثني أنه يجب أن نتصالح مع "جارتنا" وننهي العداوة، فهكذا نستطيع أن نجنّب المنطقة المزيد من الحروب والويلات وننهض باقتصادنا فوافقته الرأي: "طبعاً، فهم أولاد عمّنا، هل سنرميهم في البحر؟ هذا لا يصح أبداً"! ثم تكلمنا عن الزعماء العرب ومواقفهم المتذبذبة، فوافقته الحديث حتى وصلنا إلى جانب باب الفندق.
■ ■ ■
لا تشبه بيروت الشام، لكنها، كمدينة مشرقية عريقة لا يطغى فيها لون واحد، تشارك مدينتي في أشياء عديدة. بدأتُ لعبتي المفضلة بالبحث عمّا يذكرني بالشام، قليل من باب توما هنا، وقليل من حي الصالحية هناك. كما بدأت في البحث عن الأماكن التي تحدّثت عنها أغنيات الرحابنة وتلامذتهم أو من اجتهدوا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي لكنني لم أجدها. الأغاني تضيف سحراً على الأماكن لا العكس. وأيضاً، لا وجود لفيروز صباحاً في بلد فيروز.
يوجد في الشوارع كتابات ومنتوجات مطبوعة تذكر بأسلوب ابنها زياد الساخر. فيروز وزياد كصوت وصورة هما دمشقيان أكثر منهما بيروتيان، ولا غرابة في ذلك فهما نَبيّان لبنانيان.
زرت شارع الحمرا، ذلك الشارع البيروتي المعروف، غير مرّة للقاء معارف وأصدقاء هناك. في الشام يوجد شارع يحمل نفس الاسم أيضاً. أعتقد أنهم أطلقوا عليهما الاسم هذا تيمّناً بقصر الحمراء في غرناطة الأندلسية. لا أعرف من هو الأقدم بينهما، الشامي أم البيروتي. الشارع الشامي هو شارع تجاري أيضاً ولكنه أصغر.
تذكرت وأنا هناك لأول مرّة، ذلك المقال الذي يعود إلى سنة 2014 على ما أظن، والذي كُتبَ فيه أن شارع الحمرا صار الآن مصبوغاً باللون الأسمر، والسبب هو كثرة السوريين فيه. وبالفعل، كان يفترش بعض البائعين أرصفته وبعض المتسوّلات مع أولادهن، اللهجة التي تسمعها ليست لبنانية، إذاً هي سورية. في إحدى المرات، لحق بي وبأصدقائي ولد صغير فتخلصت منه بأن أعطيته قطعة معدنية كانت في جيبي، قال لي صديق سوري يتكلم اللهجة اللبنانية بحكم الإقامة الطويلة والاقتران من لبنانية أن هذا كثير.
في الحقيقة لم أكن أميّز القطع من بعضها وكم هي قيمتها تماماً بالنسبة للدولار، وهو العملة المتداولة في هذا البلد مثلها مثل الليرة. في سورية نتداول الليرة أيضاً، السورية لا اللبنانية. نادراً ما كنت أعطي المتسولين شيئاً.
أمر هذه الوجوه السمراء التي اجتاحت بيروت ولبنان هو أمر واقع وأمر أن هذا البلد الصغير لا يحتملهم، مادياً ومعنوياً هو أمر مفهوم أيضاً، ولكن ما هو لون بشرة اللبناني؟ أتذكر أنني حينما سكنت في باريس فترة لا بأس بها من الزمن، أخذت فكرة عن اللبنانيين بأنهم أصحاب بشرة سمراء وشعر أسود، بالطبع، كثيف في الوجه حتى إنه يزيد من حدة سمارهم. ربما قصد الكاتب ذلك السمار الذي يتواكب مع لباس داكن متسخ بحكم الفقر أو طبيعة عمل السوري المشرّد هناك والذي يتردد إلى شارع الحمرا.
أين سيذهبون إن لم يجدوا منفذاً لهم غير هذا المنفذ؟ بحكم الحاجة أو الضغط، تصبح الشعوب كالمياه تتسرّب من خلال الشقوق الصغيرة، تمر من خرم الإبرة إن لزم الأمر، قدر هذا البلد أن يكون مجاوراً وشقوقه كثيرة.
* فنان تشكيلي سوري