ارتبطت الجزائر بعلاقات تمتد لأكثر من نصف قرن مع صندوق النقد الدولي بنيت معظمها على "الاستثمار في الأزمات"، فلم يقدم الصندوق للبلاد سوى "مسكنات آنية" ضاعفت من آلام الجزائريين، حسب خبراء اقتصاد لـ "العربي الجديد".
وفي الوقت الذي تتأهب فيه الحكومة لجولة مفاوضات جديدة في مارس/ آذار المقبل مع صندوق النقد يتذكر الجزائريون المآسي والأزمات الناتجة عن اتفاقات الصندوق خلال السنوات الأخيرة، إذ قبلت الحكومة إجراءات قاسية منها انخفاض قيمة الدينار لأكثر من 35% من قيمته خلال عامين كما تآكلت قدرة المواطنين الشرائية، بالإضافة إلى فقدان أكثر من 600 ألف جزائري لوظائفهم، حسب تقارير رسمية.
تصحير اقتصادي
أكد الخبير الاقتصادي ومدير مكتب الاستشارات المالية الجزائري بباريس "stratfine vision" سيد أحمد ساحلي لـ "العربي الجديد" أن "صندوق النقد الدولي مارس سياسات التصحير الاقتصادي التي رعاها المدافعون عن نظريته بالجزائر، وأدت الشروط التي وضعها ضمن برامج إعادة التصحيح الهيكلي إلى تفكيك النسيج المؤسساتي الوطني وتسريح العمال وإحالتهم إلى البطالة".
ولفت نفس المتحدث إلى أن "ما يهم الجزائر وجميع بلدان العالم هو "الفصل الرابع" الذي يعطي الصندوق نظرة خارجية عن الاقتصاد المحلي، مشدّداً على أن الجزائر عليها التعامل معه على أنه "مكتب استشارات" كبير، يمكنه أن يصيب أو يخطئ على غرار الطريقة التي تتعامل بها دول أخرى كإندونيسيا التي فكت ارتباطها بالصندوق. وأضاف ساحلي أن سياسة صندوق النقد انعكست سلباً على جميع البلدان التي تعامل معه سواء على الدول الغربية أو العربية وفقاً لما يخدم مصلحته ومستقبله فقط.
وحسب تقارير حكومية شهدت مؤشرات الاقتصاد الجزائري تراجعاً حاداً إذ بلغت البطالة لأول مرة منذ أكثر من 20 سنة 12% في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، وارتفع التضخم إلى 6% في شهر نوفمبر/تشرين الثاني وهو رقم أكبر من توقعات الحكومة التي وضعتها عند بداية السنة الماضية والتي لم تتعد 3.8%.
اقــرأ أيضاً
وتسعى الحكومة إلى حماية احتياطي البلاد من العملة الصعبة من التآكل السريع عبر إجراءات قاسية منها منع استيراد أكثر من ألف منتج منذ بداية هذا العام، حيث هوى الاحتياطي إلى 102 مليار دولار نهاية سبتمبر/أيلول الماضي بعدما كان 115 مليار دولار عند بداية السنة الماضية.
وتتوقع الحكومة الجزائرية، حسب تصريحات وزير المالية الحالي، عبد الرحمان راوية، أن ينخفض الاحتياطي إلى 85.2 مليار دولار في العام 2018، أي ما يعادل 18.8 شهراً من الواردات، ليصل إلى 79.7 مليار دولار نهاية 2019، ثم 76.2 مليار دولار، في 2020.
بداية الكابوس
وكانت الجزائر ساهمت بحصة في صندوق النقد الدولي في 26 سبتمبر/أيلول 1963 عقب الاستقلال قدرت بـ 623.1 مليون وحدة حقوق سحب خاصة، ثم رفعت حصتها بشكل كبير خلال السنوات التالية، ويمثل الجزائر في مجلس المحافظين بصندوق النقد الذي ينعقد سنوياً محافظ البنك المركزي الجزائري.
وبالرغم من امتداد العلاقة بين الجزائر وصندوق النقد الدولي منذ 55 سنة، إلا أن الأمور الجدية بين الطرفين بدأت بعد أزمة 1986، وما خلفته تلك الأزمة على الاقتصاد الجزائر الذي ظل يترنح لولا تدخل الصندوق في العديد من المرات.
واضطرت الجزائر إلى التوقيع على عدة اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي من أجل فك الخناق على الديون الخارجية وذلك بإعادة جدولتها ومحاربة الركود الاقتصادي الذي خلفته الأزمة النفطية لسنة 1986، كان أولها "اتفاق الاستعداد الائتماني" سنة 1991، حصلت الجزائر من خلاله على قرض على أربعة أقساط، سحبت الجزائر 3 منها، أما القسط الرابع تم تجميده لعدم التزام الحكومة برئاسة سيد أحمد غزالي، آنذاك، بمضمون رسالة النية المحررة في 27 أبريل/نيسان 1991.
اقــرأ أيضاً
وتزامن تنفيذ الاتفاق باضطرابات سياسية التي سبقت وصاحبت الانتخابات البرلمانية التي انتهت بفوز الإسلاميين وتدخل المؤسسة العسكرية التي ألغت نتائج الانتخابات.
وأمام الظروف التي تلت ما يُعرف بـ "توقيف المسار الانتخابي" عقب فوز الإسلاميين، طلبت الجزائر إعادة جدولة الديون، وهو ما تم بعد ذلك باتفاق مع الصندوق سنة 1994 أعيد فيها جدولة 400.4 مليون دولار على مدى 16 سنة منها 4 سنوات معفاة من الدفع، وعليه فإن خدمة الديون لم تستأنف إلا في شهر مايو/ آيار 1998.
وسدّدت الحكومة 52% من المبالغ المستحقة خلال 9 سنوات و48 % خلال ثلاث سنوات، والتزمت الجزائر بتخفيض سعر صرف الدينار بداية من إبريل/نيسان 1994 بنسبة 40.17 % (دولار = 36 ديناراً آنذاك) وتحرير التجارة الخارجية مع تقليص الكتلة النقدية وإدخال معدل فائدة 3.5% على القروض الموجهة من البنك المركزي الى الحكومة، والأهم هو وضع قانون جديد للاستثمار يسمح بالمشاركة الأجنبية في رأس مال البنوك المحلية.
وكانت الجزائر اتفقت مع صندوق النقد الدولي في إبريل/ نيسان 1995، على تنفيذ "برنامج التصحيح الهيكلي" الذي امتد حتى 1998، استفادت فيه من قرض تمويلي موسع يعادل 127.8% من حصة الجزائر، على أن تتخذ إجراءات استعجالية في مقدمتها رفع تدريجي للدعم وصولاً إلى التحرير الكامل لكل السلع والخدمات وتحرير أسعار الفائدة ومنح استقلالية أكبر للبنوك التجارية في تقييم القروض بالإضافة إلى فتح رأسمال الاجتماعي للمؤسسات العمومية للمستثمرين الأجانب والمحليين، ما أدى إلى إفلاس المئات من المؤسسات العمومية وبيعها بـ "الدينار الرمزي" للقطاع.
انقلاب المعادلة
وشهدت نهاية سنة 2012 منعرجاً مهماً في العلاقة بين الجزائر وصندوق النقد الدولي، بعدما قرر الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة المساهمة بقيمة 5 مليارات دولار في شكل اتفاق شراء سندات محررة في شكل حقوق سحب خاصة في القرض الذي طرحه صندوق النقد الدولي بهدف تعزيز قدرته على منح قروض.
إلا أن مصير المساهمة لا يزال محل غموض في الجزائر، اذ كشفت بعثة من الصندوق نهاية سنة 2016 أن المليارات الخمسة من الدولار لم تدخل بعد خزائن الصندوق، ما دفع وزير المالية السابق، حاجي بابا عمي، إلى نفي ذلك جملة وتفصيلاً.
ومع دخول الاقتصاد الجزائري في دوامة "الأزمة المالية" التي خلفها تهاوي أسعار النفط في البورصات العالمية، لم يتوقف صندوق النقد الدولي في إرسال توصياته للجزائر، والتي تدعوها صراحة إلى ضرورة إدخال إصلاحات عاجلة على الاقتصاد، من خلال استكمال مخطط رفع الدعم عن السلع والخدمات، وتعويم قيمة الدينار بطريقة سلسة، وينتظر أن يحل وفد من الصندوق في الأسبوع الأول من مارس/آذار القادم بالجزائر تنفيذاً لما يُعرف بـ "الفصل الرابع" الذي سيُتوج بصياغة تقرير شامل حول حال الاقتصاد الجزائري.
اقــرأ أيضاً
وفي الوقت الذي تتأهب فيه الحكومة لجولة مفاوضات جديدة في مارس/ آذار المقبل مع صندوق النقد يتذكر الجزائريون المآسي والأزمات الناتجة عن اتفاقات الصندوق خلال السنوات الأخيرة، إذ قبلت الحكومة إجراءات قاسية منها انخفاض قيمة الدينار لأكثر من 35% من قيمته خلال عامين كما تآكلت قدرة المواطنين الشرائية، بالإضافة إلى فقدان أكثر من 600 ألف جزائري لوظائفهم، حسب تقارير رسمية.
تصحير اقتصادي
أكد الخبير الاقتصادي ومدير مكتب الاستشارات المالية الجزائري بباريس "stratfine vision" سيد أحمد ساحلي لـ "العربي الجديد" أن "صندوق النقد الدولي مارس سياسات التصحير الاقتصادي التي رعاها المدافعون عن نظريته بالجزائر، وأدت الشروط التي وضعها ضمن برامج إعادة التصحيح الهيكلي إلى تفكيك النسيج المؤسساتي الوطني وتسريح العمال وإحالتهم إلى البطالة".
ولفت نفس المتحدث إلى أن "ما يهم الجزائر وجميع بلدان العالم هو "الفصل الرابع" الذي يعطي الصندوق نظرة خارجية عن الاقتصاد المحلي، مشدّداً على أن الجزائر عليها التعامل معه على أنه "مكتب استشارات" كبير، يمكنه أن يصيب أو يخطئ على غرار الطريقة التي تتعامل بها دول أخرى كإندونيسيا التي فكت ارتباطها بالصندوق. وأضاف ساحلي أن سياسة صندوق النقد انعكست سلباً على جميع البلدان التي تعامل معه سواء على الدول الغربية أو العربية وفقاً لما يخدم مصلحته ومستقبله فقط.
وحسب تقارير حكومية شهدت مؤشرات الاقتصاد الجزائري تراجعاً حاداً إذ بلغت البطالة لأول مرة منذ أكثر من 20 سنة 12% في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، وارتفع التضخم إلى 6% في شهر نوفمبر/تشرين الثاني وهو رقم أكبر من توقعات الحكومة التي وضعتها عند بداية السنة الماضية والتي لم تتعد 3.8%.
وتسعى الحكومة إلى حماية احتياطي البلاد من العملة الصعبة من التآكل السريع عبر إجراءات قاسية منها منع استيراد أكثر من ألف منتج منذ بداية هذا العام، حيث هوى الاحتياطي إلى 102 مليار دولار نهاية سبتمبر/أيلول الماضي بعدما كان 115 مليار دولار عند بداية السنة الماضية.
وتتوقع الحكومة الجزائرية، حسب تصريحات وزير المالية الحالي، عبد الرحمان راوية، أن ينخفض الاحتياطي إلى 85.2 مليار دولار في العام 2018، أي ما يعادل 18.8 شهراً من الواردات، ليصل إلى 79.7 مليار دولار نهاية 2019، ثم 76.2 مليار دولار، في 2020.
بداية الكابوس
وكانت الجزائر ساهمت بحصة في صندوق النقد الدولي في 26 سبتمبر/أيلول 1963 عقب الاستقلال قدرت بـ 623.1 مليون وحدة حقوق سحب خاصة، ثم رفعت حصتها بشكل كبير خلال السنوات التالية، ويمثل الجزائر في مجلس المحافظين بصندوق النقد الذي ينعقد سنوياً محافظ البنك المركزي الجزائري.
وبالرغم من امتداد العلاقة بين الجزائر وصندوق النقد الدولي منذ 55 سنة، إلا أن الأمور الجدية بين الطرفين بدأت بعد أزمة 1986، وما خلفته تلك الأزمة على الاقتصاد الجزائر الذي ظل يترنح لولا تدخل الصندوق في العديد من المرات.
واضطرت الجزائر إلى التوقيع على عدة اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي من أجل فك الخناق على الديون الخارجية وذلك بإعادة جدولتها ومحاربة الركود الاقتصادي الذي خلفته الأزمة النفطية لسنة 1986، كان أولها "اتفاق الاستعداد الائتماني" سنة 1991، حصلت الجزائر من خلاله على قرض على أربعة أقساط، سحبت الجزائر 3 منها، أما القسط الرابع تم تجميده لعدم التزام الحكومة برئاسة سيد أحمد غزالي، آنذاك، بمضمون رسالة النية المحررة في 27 أبريل/نيسان 1991.
وتزامن تنفيذ الاتفاق باضطرابات سياسية التي سبقت وصاحبت الانتخابات البرلمانية التي انتهت بفوز الإسلاميين وتدخل المؤسسة العسكرية التي ألغت نتائج الانتخابات.
وأمام الظروف التي تلت ما يُعرف بـ "توقيف المسار الانتخابي" عقب فوز الإسلاميين، طلبت الجزائر إعادة جدولة الديون، وهو ما تم بعد ذلك باتفاق مع الصندوق سنة 1994 أعيد فيها جدولة 400.4 مليون دولار على مدى 16 سنة منها 4 سنوات معفاة من الدفع، وعليه فإن خدمة الديون لم تستأنف إلا في شهر مايو/ آيار 1998.
وسدّدت الحكومة 52% من المبالغ المستحقة خلال 9 سنوات و48 % خلال ثلاث سنوات، والتزمت الجزائر بتخفيض سعر صرف الدينار بداية من إبريل/نيسان 1994 بنسبة 40.17 % (دولار = 36 ديناراً آنذاك) وتحرير التجارة الخارجية مع تقليص الكتلة النقدية وإدخال معدل فائدة 3.5% على القروض الموجهة من البنك المركزي الى الحكومة، والأهم هو وضع قانون جديد للاستثمار يسمح بالمشاركة الأجنبية في رأس مال البنوك المحلية.
وكانت الجزائر اتفقت مع صندوق النقد الدولي في إبريل/ نيسان 1995، على تنفيذ "برنامج التصحيح الهيكلي" الذي امتد حتى 1998، استفادت فيه من قرض تمويلي موسع يعادل 127.8% من حصة الجزائر، على أن تتخذ إجراءات استعجالية في مقدمتها رفع تدريجي للدعم وصولاً إلى التحرير الكامل لكل السلع والخدمات وتحرير أسعار الفائدة ومنح استقلالية أكبر للبنوك التجارية في تقييم القروض بالإضافة إلى فتح رأسمال الاجتماعي للمؤسسات العمومية للمستثمرين الأجانب والمحليين، ما أدى إلى إفلاس المئات من المؤسسات العمومية وبيعها بـ "الدينار الرمزي" للقطاع.
انقلاب المعادلة
وشهدت نهاية سنة 2012 منعرجاً مهماً في العلاقة بين الجزائر وصندوق النقد الدولي، بعدما قرر الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة المساهمة بقيمة 5 مليارات دولار في شكل اتفاق شراء سندات محررة في شكل حقوق سحب خاصة في القرض الذي طرحه صندوق النقد الدولي بهدف تعزيز قدرته على منح قروض.
إلا أن مصير المساهمة لا يزال محل غموض في الجزائر، اذ كشفت بعثة من الصندوق نهاية سنة 2016 أن المليارات الخمسة من الدولار لم تدخل بعد خزائن الصندوق، ما دفع وزير المالية السابق، حاجي بابا عمي، إلى نفي ذلك جملة وتفصيلاً.
ومع دخول الاقتصاد الجزائري في دوامة "الأزمة المالية" التي خلفها تهاوي أسعار النفط في البورصات العالمية، لم يتوقف صندوق النقد الدولي في إرسال توصياته للجزائر، والتي تدعوها صراحة إلى ضرورة إدخال إصلاحات عاجلة على الاقتصاد، من خلال استكمال مخطط رفع الدعم عن السلع والخدمات، وتعويم قيمة الدينار بطريقة سلسة، وينتظر أن يحل وفد من الصندوق في الأسبوع الأول من مارس/آذار القادم بالجزائر تنفيذاً لما يُعرف بـ "الفصل الرابع" الذي سيُتوج بصياغة تقرير شامل حول حال الاقتصاد الجزائري.