كان القدماء يقولون: "من السّعادة أن تحبّ ويحبّك من تحبّه، ومن الشّقاوة أن تحبّ ولا يحبّك من تحبّه". وما زالت هذه القاعدة تتحكّم في حياتنا، وتحدّد مجراها في أحيان كثيرة. قاعدة عالمية، كونية، بُنيت عليها جلّ المجتمعات. فنسمّيها عادات أو تقاليد أو تشريعات سماوية.
ولكن هل يكفي أن يحبّك محبوبك بدوره، لكي يخلق فيك الإحساس بما يسمّى بالسعادة أو الدخول في حالة السعادة؟ وهل إن مفهوم السعادة لا يكتمل فعلاً إلا بهذا الوضع الذي يعتبر الغذاء الأساسي لحبّ يدوم، خاضعاً لرتابة الأيام التي تمر، وتتشابه فيها الحركات التي نقوم بها، حيث نكون قد وجدنا الشبيه، ذلك الذي يبادلنا نفس الإحساس؛ الحبّ.
هذا الحبّ المتبادل، الذي يدخل في وضعيّة اليومي، أو الروتين، خاصة عن طريق الزواج، أو العيش تحت نفس السّقف في مجتمعات لا ترى للحبّ أفقاً واحداً.
في الحالتين، تكون الأهداف لا علاقة لها بنقاوة (بمعزل عن المعنى الأخلاقي للكلمة) وفرادة حبّ لا يتلوّث ولا ينتهي. في الغرب مثلاً، هناك من يعيشان سوياً لسنوات وعند رغبتهما في الإنجاب يتزوجان. لا يتعلّق الأمر بأسباب دينية، بل لإحساس غريب بواجب التوثيق.
بيد أننا نكون في كثير من الأحيان مضطرّين للزواج لتحقيق هذه السعادة وإنجاب الأطفال؛ تسعة أشهر بعد الزواج وتصبح الثلاجة والصالون الرومي والصالون العربي أو البلدي والزرابي والشبْكة والمقدَّم والمؤخَّر، مقوّمات هامة، لتعزيز هذا الحب المتبادل. ولكن قد تكون بداية ابتذاله.
ربما نعرف جميعاً قصة الأب الذي أراد أن يزوّج ابنته من رجل غني، بينما هي كانت تريد أن تتزوج شاباً فقيراً، يحبّها وتحبّه. وأصرّت الفتاة، فرفع الأمر للنبيّ محمد، فحسم بتزويجها للفقير الذي تحبه، قائلاً: لم يُر للمتحابين خير من النّكاح أي الزواج.
وكان هذا موقف الدين من مسألة كانت مطروحة منذ القدم. النكاح شفاء للحبّ. بينما كان أشهر المحبّين في تاريخنا والشعراء والمؤلفون، يستندون إلى المقولة الشهيرة: "إذا نكح الحبّ فسد"، أي إن الزّواج أو استهلاك الحبّ ينفيه ويحد من قوته. ولم يكن لديهم بأس في بعض الرخص، يجعل من مفهوم العفّة موضوعاً مهمّاً، ولكن في موضع آخر. فهكذا يروي أبو الطيب الوشّاء في مؤلفه "الكتاب الموشّى" أبياتاً لشاعر مجهول:
"ما الحب إلا قُبَلٌ وغَمْز كفّ وعضُد
أو كُتبٌ فيها رُقى أنفذ من العُقد
ما الحُبّ إلا هكذا إن نُكح الحبُّ فسد
من لم يكن ذا عفّةٍ فإنّما يبغي الولد"
بين رأي الدين الذي يشدّ من جماح الحبّ بالزواج، وبين المتعارف عليه في المؤلّفات حول موضوع الحب والهوى، كـ"ذمّ الهوى" لابن الجوزي، و"مصارع العشاق" للسرّاج وغيرهم؛ جاء ابن حزم ليجمع بين النظريتين في "طوق الحمامة" قائلاً بأن استهلاك الحب لا ينفيه البتة، بل يقويه ويشدّ أزره ويغذيه: "دعني أخبرك أني ما رويت قط من ماء الوصل ولا زادني إلا ظمأ. وقد بلغت من التمكّن بمن أحب أبعد الغايات. فما وجدتني إلا متزيّداً ووجدتني كلما ازددت دنواً ازددت ولوعاً، وقدحت زناد الشوق نارَ الوجد بين ضلوعي".
طبعا هذه كلّها طروحات غير جديدة وما زالت تثير نقاشات وتتولد منها مؤلفات حديثة. ولنعد إلى المقولة الأولى عن السّعادة أو الشّقاوة، إذا شاطرك المحبوب الحب أم لا. العلم جميل ولكن جهل الأشياء أجمل أحياناً.
السعادة ربّما هي أن تحبّ فقط دون أن تكون لك معرفة بمشاطرة الآخر إياك شعورك. أن تطوي المسافة بينكما نفسها كالمد والجزر. أن لا تخشى العتمة والحبّ نجمة سمائك. أن يكون الهُوَ والأنت وصانع النّحن فيك. أن يكون المحبوب النسمة في رئتيك. الأنفاس فيك ومنك.
اللمسة تحسّها ليلًا، فتبتسم نشوة وأنت وحدك في السرير، القطرة من عينيك، أن يكون مفارقك وهو كلّه باق فيك. السعادة أن كل عضو فيك يحِنُّ ويئنُّ ويهفو ويميل ويتدانى ويتوب ويؤوب إليه والغياب قرب. الحب أن يكون نائياً، مديراً لك ظهره، فيما تتبعه نفسك. أن تمشي فيه كصحراء ممتدة، تنزف ماء لا يشربه سواك، صحراء لم تطمثها قدم إلاك.
الحبّ أن تنفُثَ الكلِمَ كلَّه، الشّعر كلّه، أن تقُصّ الكون خَصلة خصلة، وتتركها للريّاح تبعثرها في الأركان، وترسمها على جبين من تحب وهو عنك غافل.
أن تطفئ الضوء، وتفتح عينيك، وتنظر الفكرة فيه لم تولد.
من السعادة أن تحبّ فقط يا صديقي.
وما أضيق العيش لولا فسحة الألم، وحلاوة الحُلُمِ، ونقاء الخاطر من همِّ تعمير الأرض، والتّباهي بالنسل والسيارة والفيلا والمنصب والسلطة…
وفي رسالة أخرى، سأحكي لك عن بعضٍ من أحوالِ الحبِّ الستّين ومراتبها. من حبٍّ، وهُيام، وصبابة، ووَلَعٍ، وغرام، وعِشق، ولَعْج، و شَجَنٍ، وحنين، وحرقة وغيرها من مواقع نجوم الحبّ، وأخبرك مسبقاً أن السعادة ليست من بينها.
* شاعرة وروائية مغربية مقيمة في باريس