في السنوات الأخيرة، تحوّل "الدخول الأدبي" في الجزائر إلى عادة لفظية تُكرّرها الصحافة مطلع كل خريف ويصدّقها كتّاب وقعوا في فخاخ الإغواء.
الظاهرة، التي تنسحب على بلدان عربية أخرى، هي نتيجة تمثّل هذا الحدث الذي تعيشه بلدان أوروبية لها تقاليد عريقة في نشر الكتاب وتوزيعه وتحريض الناس على قراءته، ويقفز هنا النموذج الفرنسي؛ حيث تتبارى دور النشر في تقديم فاكهتها في كلّ الموسم، بعد أن تكون استقطبت كتّاباً راهنت عليهم، سواءً في تحقيق أرقام مبيعات عالية، أو استهداف جوائز رفيعة تؤكّد القيمة وتضمن الرواج.
هناك، تلعب الصحافة عبر نقّاد أدبيّين حقيقيين اللعبة؛ فتعرض الكتب وتناقشها وتحاور أصحابها، وتساهم التلفزيونات في لفت الأنظار إلى الكتاب، ليس عبر البرامج الأدبية والثقافية فحسب، ولكن حتى في برامج "التوك شو" والتسلية التي يتسلّل إليها كتّاب يعيشون بالكتاب وله، إلى درجة أن برنامج الألعاب المعروف "أكبر كابريه في العالم" الذي تبثّه القناة الفرنسية الثانية لا يتخلّف عن استضافة كتّاب مع مهرّجين وممثّلين وسحرة. هناك، يبدو الأمر وكأننا أمام آلة رهيبة لصناعة الكتاب وتسويقه، ولا تجد من يتحدّث عن تراجع المقروئية أو موت القارئ أمام المقترحات التي تعرضها الميديا الجديدة على الحواس.
في الجزائر، تردّد المصطلح مع توالي دورات "المعرض الدولي للكتاب"، الذي يُعدّ أكبر حدث ثقافي في البلاد، إذ تجاوز عدد زوّاره في الدورات الأخيرة مليون ونصف مليون زائر، بحسب منظّميه.
تزامن ذلك مع ازدهارٍ عرفته سوق النشر والطباعة بسبب الاعتمادات المالية الكبيرة التي رصدتها الدولة لـ "دعم الكتاب" في مناسبات ثقافية استمرت لنحو عقد ونصف، وقد مكّنت تلك الاعتمادات من ظهور عشرات دور النشر وطباعة مئات العناوين، وهنا اختلط الحابل بالنابل وتوارى الناشر المحترف خلف الهاوي، والمهموم بالكتاب خلف الانتهازي الذي يستهدف أموال الدعم ليغيّر نشاطه بعد حين، واقتحم كتّاب المجال.
لكن ذلك كلّه لم يكن دليل صحة وعافية، لأن ظهور مئات، وحتى آلاف من العناوين، في ظرف وجيز لم يُفصح سوى عن أعمال أدبية قليلة ذات قيمة، ولم يستغل الناشرون "سخاء الدولة" لتطوير نشاطهم، رغم العائدات القياسية التي صُبّت في أرصدتهم قبل توزيع إصداراتهم.
ضمان المداخيل مسبقاً جعل دور نشر تسارع إلى صدار أكبر عدد ممكن من العناوين بهدف تحصيل الدعم لا أكثر. والنتيجة أن الكثير من الكتب التي نُشرت لا تستحق النشر، بل إنها لم تُراجع حتى لغوياً ولم يفكّر ناشروها في فحص جنسها ونسبها، وأصبح بإمكان أي مواطن أن يكتب مجموعة من الصفحات ويطلق عليها اسم رواية أو شعر.
وعمد ناشرون إلى أساليب طريفة كتضخيم الخط لزيادة عدد صفحات الكتب لرفع الدعم، وروى أحد أعضاء لجنة القراءة، التي عيّنتها وزارة الثقافة لمراقبة ما يقترحه الناشرون، أن بعضهم قدّموا رسائل جامعية جمعوها من مناقشاتٍ متضمّنةً الملاحظات التي وضعها المناقشون على الهوامش من دون أن يكلّفوا أنفسهم حتى عناء إعادة تصفيفها، وذكر مختصّ في علم النفس أنه عهد بمخطوط كتاب علمي إلى دار نشر ثم تراجع بسبب عدم وصولهما إلى اتفاق، لكنه فوجئ بعد سنتين بكتابه منشوراً، وقد أُضيفت إليه مقالات صحافية من الجرائد لتضخيمه!
لكن الملاحظ أن معظم الكتب المنشورة تُقدَّم في معرض الكتاب، وتقتنيها المكتبات العمومية، لكنّها لا تُوزَّع على نطاق واسع. هكذا، يصبح من الصعوبة بمكان الحديث عن دخول أدبي، مثلما يصعب إعطاء الأدب وأهله وجاهةً في بلدان لا يشكّل فيها صدور كتاب حدثاً، ولا تهتم جماهيرها بالأدب، ولا تتولّى فيها "النخب" الإشراف على دور النشر، وتضع صحافتها الصفحات الثقافية في مرتبة متأخّرة بعد صفحات التسلية، بلدان يطبع "كبار" كتّابها أقلّ من ثلاثة آلاف نسخة يظلّ نصفها على الرفوف لسنوات.
ثمّة استثناءات بالطبع: أحلام مستغانمي في الفضاء العربي وياسمينة خضرة في الغرب، اللذان بلغت مبيعات كتبهما أرقاماً غير مسبوقة في البلاد العربية، لكنهما يظلّان الاستثناء الذي لا يخرق القاعدة العامّة.
ربما كانت المشكلة متعلّقةً، أساساً، بمنظومة اجتماعية وسياسية واقتصادية لا تحتاج إلى "الثقافي" في الإشارة إلى نفسها في عصر ظلمات جديد، ارتفعت فيه أصوات "الفقهاء"، وتراجع منسوب العقل والجمال.
قد يكون اصطناع الدخول الأدبي مناسبة مهمّة للكتّاب لانتزاع مساحة من الحياة العامّة ولفت الأنظار والتأسيس لتقاليد جديدة، لكنّه يعرض مشاهد محزنة؛ كمشهد كتّاب يبيعون إصداراتهم في أروقة المعارض ويتلقّون مقابلها من قرّاء محتملين، أو مشهدهم وهم يلوّحون بأغلفة الكتب على مواقع التواصل الاجتماعي استجداءً لقرّاء لا وجود لهم.
* كاتب جزائري