لا يسعف الحديث عن ياس خضر (1938) سوى الكلمات التي غناها، هو العراقي الذي كانت أغانيه تنجد مستمعها في لحظات أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها موغلة في حزنها.
في الآونة الأخيرة، ترك غياب صاحب "مسافرين" عن الأضواء، ومرضه، باب الشائعات مفتوحاً على مصراعيه. هكذا، راحت تتكرر، بين حين وآخر، أخبار حول رحيله، ما دفعه إلى الخروج أخيراً لنفي ذلك في فيديو نُشر على يوتيوب. ولا يخفي المقطع الذي ظهر فيه أبو مازن آثار المرض عليه.
صوت خضر أثّر بوعي جيل كامل عاش الانكسارات والهزائم التي لحقت ببلاد احترف سكانها البكاء على مقامات "اعزاز" و "حن وأنا حن". الألم في صوته ليس ذاك الذي يتوسل التعاطف أو الشفقة. إنه الألم الشامخ؛ ألم الكبرياء الذي تربّت عليه أقوام "أحنا اللي طرزنا الستاير، للشبابيك اللي عبر منها الضوا".
لا نجافي الحقيقة إن قلنا إنّ خضر ينتمي إلى عصر لا يمكن إلا أن نسمّيه بعصر الأغنية. عصر عراقي استطاعت فيه الأغنية، وحدها، ولعقود طويلة، أن تكون الفن الأكثر تمثيلاً للمجتمع بكل مصائبه واختلالاته.
خضر، مع أبناء جيله من نجوم الأغنية العراقية، كفؤاد سالم وحسين نعمة وفاضل عواد وآخرين، كانوا ورثة أمينين لمن قبلهم من روّاد المقام العراقي، مثل محمد القباقنجي، وناظم الغزالي، ويوسف عمر. في هذا المقام، يمكن القول إن خضر، على مستوى الأداء الغنائي، شكّل جسراً بين جيله ومن سبقه.
في العصر الذهبي للأغنية العراقية، حفر اسمه كواحد من أهم مرتّليها. تجربته نتاج مزيج فني خاص، أوصله إلى كافة الفئات الشعبية، ليس داخل العراق فحسب، بل خارجه أيضاً، حيث استطاع طرق جميع الأبواب بصوته العذب، وإحساسه العالي.
لم تعرف أغانيه لوناً مجتمعياً أو أيدولوجياً واحداً. كما كان صوته عابراً للأديان والإثنيات والقوميات. أغانيه التي حفظها الشيوعيون والقوميون والنخبويون والبسطاء والمؤمنون والملحدون، تطرب، بل وتنتمي بقدر أكبر، إلى الأطراف ومهمّشيها.
كان خضر، في طفولته، مجوداً للقرآن، ولم يكن يسيراً على عائلته الملتزمة تقبّل فكرة اختياره الغناء. إلا أنه استطاع تجاوز كافة العوائق بفضل صوته أولاً. بدأ كمغنّ في الحفلات الخاصة والأعراس في بغداد.
لكن الفضل الأكبر في مسيرته يعود، بحسبه، إلى الموسيقار جميل بشير، الذي نشأ وكبر في مدرسته. وقد سجّل الأخير له أغنيتين شعبيتين ("الهدل"، و"أبو زركة").
امتازت معظم أغاني خضر بكلماتها، على عكس كثير من المطربين العراقيين الذين لم تسعفهم الكلمات دائماً. أغانيه كتبها شعراء كبار، منذ أن اكتشف موهبته، مطلع الستينيات. بدأ مشواره مع الملحن محمد جواد أموري، ثم بدأ نجمه بالسطوع في بداية السبعينيات، حين تعاون مع عدد من أهم شعراء الأغنية العراقية.
إلا أن العودة إلى بداياته تستوجب المرور بأغنية "المكير" (1969)، التي أبرزت موهبته، وكان كتب كلماتها الشاعر زامل السيد فتّاح، الذي كتب له في ما بعد أغان تعدّ من روائعه، مثل "عزاز" و"يا ليل".
كذلك كان تعاونه الاستثنائي مع الشاعر مظفّر النواب، فغنّى له قصائد تعدّ علامات فارقة في الغناء العراقي والعربي معاً، كأغنيتي "ليل البنفسج"، و"روحي"، اللتين منعتا لدى صدورهما في العراق، يضاف إليهما "حن وأنا حن"، و"الريل وحمد".
وفي الحديث عن الفترة الذهبية في مسيرة خضر، يتوجب التوقف عند تعاونه مع طالب القره غولي، الذي لحّن له أهم أغانيه، وساهم بعبور اسمه خارج حدود وطنه.
ستبقى تجربة ياس خضر بئراً صحراوياً يختزن في داخله أغان تُشير، بكل ما تحمله من عشق واغتراب وفرح مطعّم بالأسى، إلى تاريخ كامل من القهر. ستغدو العودة إلى منجَزه، بالغة الأهمية، عند مطالعة تاريخ الأغنية العراقية يوماً ما.