الجهات ست، يمين ويسار وخلف وأمام وفوق وتحت.
ولكل كائن جهاته الست، هي حيّز كينونته ومجال حيويته، تحركه ويتحرك بها ومن خلالها، وليس في الإمكان تخيّل فقدان أي موجود، ساكنًا كان أم متحركًا، لإحدى هذه الجهات.
هل هناك شجرة أو حجرة أو غيمة من دون سفل وعلو ويمين ويسار وخلف وأمام؟ هل هناك إنسان أو حيوان أو جماد كذلك؟
حين كان "الشاعر الظريف" يخاطب محبوبته قائلًا: يا ستي، فإنما كان يعني: يا ست جهاتي، يا المالكة عليّ جهاتي الست، حتى لا خلاص، ولا رغبة في خلاص!
وفي الأصل لا تَفضُل جهة جهة أخرى، ولا حتى بالتقوى، ولا تحقق لإحداهن بغير وجود الأخريات، فهل يتجه شيء إلى اليمين إلا إذا كان منطلقا من اليسار، أو إلى فوق إن لم يكن منقذفًا من تحت، أو إلى الأمام من دون أن يكون مندفعًا من وراء؟
اقرأ أيضًا: من يحتاج إلى الشعر؟
لكن الإنسان بذكائه وغبائه معًا، لم يدع شيئا على أصله وفي براءته، بل أصرّ، منذ وجوده وعبر مشروعه التاريخي والحضاري والفكري، على إسقاط مفاهيمه وقيمه التي ارتضاها لنفسه، قيدًا أو سوارًا، على كل شيء، ولم تنج من عسفه هذا حتى الجهات!
وهكذا راح العلو يتباهى على السفل، واليمين يفاخر اليسار، والأمام يهزأ من الوراء، وفق منظومة من التواطؤات، لا تدري مَنْ افترضها وأشاعها أوّل مرة، حتى غدت من مسلّمات القيم.
ولنفصّل أكثر: اليد اليمنى خير وأطهر من اليد اليسرى، وأهل اليمين هم الأخيار (أصحاب الميمنة)، فيما أهل الشمال (أصحاب المشأمة)، والحامل كتابه بيمينه يلقى مصيرًا، هناك، غير الحامله بيساره. والرجل الذي يوقفه زعيمه إلى يمينه أكبر قدرًا و قيمة من ذاك الذي يوقفه إلى يساره. وحين تدار القهوة في المجالس، تدار من اليمين، حتى ولو كان أبو زيد الهلالي جالسًا إلى الشمال. وعند الدخول أو الخروج من باب، فالأولوية والأحقية لمن هو إلى اليمين... إلخ.
ومن المنظور نفسه: اليد العليا خير من اليد السفلى، والأبرار في عليين، والأشرار في أسفل سافلين، والمركز العالي، والجبين العالي، والهمّة العالية.. إلخ.
اقرأ أيضًا : ماتت الكلمات
وبالطريقة ذاتها: الجهة الأمامية خيرٌ من الجهة الخلفية، ففي الأمام الوجه؛ العينان والأنف الأشم والفم والذقن. وفي الخلف القفا!
والسير إلى أمام، يعني تقدّمًا وإنجازًا وتفوقًا، فيما السير إلى خلف يعني نكوصًا وتراجعًا وتخلّفًا. والنظر إلى أمام، يدلّ على استشراف ذكي للمستقبل، أما النظر إلى وراء، فيدلّ على سكونية وقلّة فطنة.. إلخ.
بيد أن هذه الصفات ليست، على صرامتها البادية، نهائية، فقد بدّلت مواقعها، وغيّرت "اتجاهاتها" القيمية، مع تغيّر الظروف والمواضعات الاجتماعية والتاريخية والفكرية.
فاليميني هو ذاك الإنسان التقليدي المحافظ، الذي يعمل على إبقاء الأمور على ما هي عليه، الأناني الذي يضع مصلحته الشخصية أو الفئوية فوق المصالح العامة للشعب، أما اليساري فهو المناضل من أجل التغيير، الثوري المتطّلع إلى خير الشعوب وتحررها بانفتاح وحيوية.
وآلت "الفوقية" لتصير سمة أولئك المتكبّرين المتعجرفين على من سواهم من البشر، الهازئين بضعفهم وعوزهم. وصار "خفض الجناح" والتواضع من الصفات المحمودة المطلوبة في الأخلاق. فيما اكتسبت "الخلفية"، بمعنى المرجعية والأصول، صفة محترمة ومقدّرة، كونها تؤسّس لما يأتي بعدها (أي أمامها هنا) وتدعمه وتؤكّد قيامه.
ولست هنا في معرض تقصّي ما انتاب الجهات من متغيّرات في القيمة والدلالة، لكني أحاول ملاحقة تأمّلاتي فيها، والتي تعرض عليّ، هذه اللحظة، صورة كرة مقذوفة في الفضاء، تدور حول نفسها وتدور، فيما ينتظرها على الأرض ستة أشخاص: يقول الأوّل ستسقط إلى يميني، ويقول الثاني ستسقط إلى شمالي، ويقول الثالث ستسقط فوقي، ويقول الرابع ستسقط تحتي، ويقول الخامس ستسقط أمامي، ويقول السادس ستسقط خلفي.
والكرة، في تطوّحها الشره، ودورانها الأبدي، تسأل نفسها سؤال المتخابث: ترى أين يميني وأين يساري وأين أمامي وأين خلفي وأين فوقي وأين تحتي؟!
هل هناك شجرة أو حجرة أو غيمة من دون سفل وعلو ويمين ويسار وخلف وأمام؟ هل هناك إنسان أو حيوان أو جماد كذلك؟
حين كان "الشاعر الظريف" يخاطب محبوبته قائلًا: يا ستي، فإنما كان يعني: يا ست جهاتي، يا المالكة عليّ جهاتي الست، حتى لا خلاص، ولا رغبة في خلاص!
وفي الأصل لا تَفضُل جهة جهة أخرى، ولا حتى بالتقوى، ولا تحقق لإحداهن بغير وجود الأخريات، فهل يتجه شيء إلى اليمين إلا إذا كان منطلقا من اليسار، أو إلى فوق إن لم يكن منقذفًا من تحت، أو إلى الأمام من دون أن يكون مندفعًا من وراء؟
اقرأ أيضًا: من يحتاج إلى الشعر؟
لكن الإنسان بذكائه وغبائه معًا، لم يدع شيئا على أصله وفي براءته، بل أصرّ، منذ وجوده وعبر مشروعه التاريخي والحضاري والفكري، على إسقاط مفاهيمه وقيمه التي ارتضاها لنفسه، قيدًا أو سوارًا، على كل شيء، ولم تنج من عسفه هذا حتى الجهات!
وهكذا راح العلو يتباهى على السفل، واليمين يفاخر اليسار، والأمام يهزأ من الوراء، وفق منظومة من التواطؤات، لا تدري مَنْ افترضها وأشاعها أوّل مرة، حتى غدت من مسلّمات القيم.
ولنفصّل أكثر: اليد اليمنى خير وأطهر من اليد اليسرى، وأهل اليمين هم الأخيار (أصحاب الميمنة)، فيما أهل الشمال (أصحاب المشأمة)، والحامل كتابه بيمينه يلقى مصيرًا، هناك، غير الحامله بيساره. والرجل الذي يوقفه زعيمه إلى يمينه أكبر قدرًا و قيمة من ذاك الذي يوقفه إلى يساره. وحين تدار القهوة في المجالس، تدار من اليمين، حتى ولو كان أبو زيد الهلالي جالسًا إلى الشمال. وعند الدخول أو الخروج من باب، فالأولوية والأحقية لمن هو إلى اليمين... إلخ.
ومن المنظور نفسه: اليد العليا خير من اليد السفلى، والأبرار في عليين، والأشرار في أسفل سافلين، والمركز العالي، والجبين العالي، والهمّة العالية.. إلخ.
اقرأ أيضًا : ماتت الكلمات
وبالطريقة ذاتها: الجهة الأمامية خيرٌ من الجهة الخلفية، ففي الأمام الوجه؛ العينان والأنف الأشم والفم والذقن. وفي الخلف القفا!
والسير إلى أمام، يعني تقدّمًا وإنجازًا وتفوقًا، فيما السير إلى خلف يعني نكوصًا وتراجعًا وتخلّفًا. والنظر إلى أمام، يدلّ على استشراف ذكي للمستقبل، أما النظر إلى وراء، فيدلّ على سكونية وقلّة فطنة.. إلخ.
فاليميني هو ذاك الإنسان التقليدي المحافظ، الذي يعمل على إبقاء الأمور على ما هي عليه، الأناني الذي يضع مصلحته الشخصية أو الفئوية فوق المصالح العامة للشعب، أما اليساري فهو المناضل من أجل التغيير، الثوري المتطّلع إلى خير الشعوب وتحررها بانفتاح وحيوية.
وآلت "الفوقية" لتصير سمة أولئك المتكبّرين المتعجرفين على من سواهم من البشر، الهازئين بضعفهم وعوزهم. وصار "خفض الجناح" والتواضع من الصفات المحمودة المطلوبة في الأخلاق. فيما اكتسبت "الخلفية"، بمعنى المرجعية والأصول، صفة محترمة ومقدّرة، كونها تؤسّس لما يأتي بعدها (أي أمامها هنا) وتدعمه وتؤكّد قيامه.
ولست هنا في معرض تقصّي ما انتاب الجهات من متغيّرات في القيمة والدلالة، لكني أحاول ملاحقة تأمّلاتي فيها، والتي تعرض عليّ، هذه اللحظة، صورة كرة مقذوفة في الفضاء، تدور حول نفسها وتدور، فيما ينتظرها على الأرض ستة أشخاص: يقول الأوّل ستسقط إلى يميني، ويقول الثاني ستسقط إلى شمالي، ويقول الثالث ستسقط فوقي، ويقول الرابع ستسقط تحتي، ويقول الخامس ستسقط أمامي، ويقول السادس ستسقط خلفي.
والكرة، في تطوّحها الشره، ودورانها الأبدي، تسأل نفسها سؤال المتخابث: ترى أين يميني وأين يساري وأين أمامي وأين خلفي وأين فوقي وأين تحتي؟!