أتذكّر يوسف إدريس، وأنظر خلفي. كنت قابلته مرتين: واحدة بعد اجتياز السلك الحدودي، بدون ورق، ومكثت لمدة شهر. والأخرى، عقبها بسنة، بجواز سفر، ومكثت سنوات.
كانت المرتان، في 1981 و1982. وكنت جئت القاهرة، قارئاً معظم كتبه وبعض مفكرته الأسبوعية في "الأهرام".
كان الشائع في الجو الثقافي المصري حينها، أن يوسف أفلس ككاتب قصة لا شبيه له، وأن مفكرته تلك التي تُفرد لها الجريدة صفحة كاملة أسبوعياً، قتلته كقاص.
والحق، أني سمعت الناقد الراحل، فاروق عبد القادر، غير مرة، وهو ينعيه كلاماً، بعدما فعَلَها كتابةً، في غير مقال. هل أثّر عبد القادر على الوسط الذي كنت أخالطه آنذاك؟ ربما.
المؤسي في الأمر، أن يوسف نفسه كاد يُصدّق حكاية إفلاسه، وآية ذلك، ردود أفعاله العنيفة، بخصوص من يتداولون الموضوع.
أذكر، بعد تلك الأيام، أنه أصدر مجموعتين قصصيتين هما: "أنا سلطان قانون الوجود"، و"اقتلْها"، وطبعاً لم تكونا بمستوى إبداعه المذهل القديم، وإن يكن ظلّت فيهما منه رائحة وبصمة. وأظن أنه قرأ ما كُتب عنهما وازداد تأزّماً.
يوسف الموّار كالنيل في فيضانه، كان يحدس ـ في عمق دخيلته ـ أن الموهبة العظمى، يجيء زمن وتخفت، وحينئذ سيكون صاحبها انعكاساً شاحباً لما كان عليه. هو الذي تعوّد على مكانة القاص العربي الأول، ونجم هذا الفن الصعب بلا منازع، لا يحتمل أن تنسحب عنه الأضواء التي استحقها عن جدارة.
لم يطُل الزمنُ بيوسف، في تلك الحقبة الرمادية، حتى مات فجأة أثناء عملية جراحية في لندن.
أتذكره الآن، وأمامي ـ مرة أخرى ـ مجموع قصصه القصيرة، فأحزن. أحزن على من كان قاسياً عليه، وأحزن على قسوته هو ذاته على نفسه.
فليس من العدل، ولا من الإنصاف أن يُطالب المبدع، بالصعود دائماً، كأنه مكوك فضائي، فإذا تعثّر وهبط أو سقط، عوقب.
ثم إن المسألة في الأدب هي الكيف وأبداً لن تكون الكم. كتاب واحد يكفي، ليبقى اسمك في امتحان الزمن.
ويوسف، الذي قال عنه اليساري فاروق، في معرض التعريض، إن خمساً من قصصه القصيرة هي ما سيبقى من كل إنتاجه، هو نفسه الذي كتب خمس مجموعات كاملة أظنها بمعظمها ستبقى. أفلا يكفيه ذلك؟
لقد مصّر هذا الفن الوافد علينا، بكل أصالة، أفلا يكفيه ذلك؟ كان واحداً من أهم قصاصي العالم في زمانه ـ وأؤمن أنه لا يزال ـ ألا يكفيه ذلك؟ وحتى بمقياس فاروق ذاك، فإن الرقم الذي طرحه ليس بالشيء القليل.
هذا غير مواقفه الوطنية الجريئة ووقوفه مع القضايا العادلة، دون مواربة، في زمني السادات ومبارك: الزمنين البائسين اللذين ابتلعا غير قليل من المثقفين والمبدعين المصريين، وعلى رأسهم: محفوظ.
خمسة وثلاثون عاماً تفصلني الآن عن لقائي الثاني والأخير بيوسف. ولو أردت اختصاره بسطر، فلن أقول إنه عندي رمز للفنان ـ وهو كذلك ـ بل ما هو أعمق وأعم وأخطر:
كان كالرعد، والندى، والزلازل، والعصفور: ظاهرة طبيعية. هل بالغت؟