تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الثامن من كانون الأول/ ديسمبر، يوم ميلاد مؤرّخ الفلسفة المصري يوسف كرم (1886 - 1956).
مثّل الفكر الأوروبي، خصوصاً منه في عصر التنوير (القرن الثامن عشر)، أحد أبرز الإلهامات التي حرّكت مثقفي عصر النهضة العربية، غير أن هذه الإلهامات اعتمدت في أغلبها على تلمّسات متفرّقة من هنا وهناك، دون أن تتوفّر في العربية وقتها موسوعات تُجمل الفكر الفلسفي حتى ذلك التاريخ، أو ترجمات تنقل أعمال أبرز أسماء الفكر الغربي مثل كانط وروسو وهيغل.
تأخّر هذا الجهد إلى ثلاثينيات القرن العشرين، حين جعل يوسف كرم من تاريخ الفلسفة موضوع دراسة ثم تأليف، فبدأ في إصدار مجموعة كتب كان كلّ واحد منها يمسح فترة أساسية من تاريخ الفلسفة، وهو مشروع تواصل إلى سنة 1949 ليضمّ في النهاية أربعة مجلّدات هي: "تاريخ الفسلفة اليونانية"، و"تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط"، و"تاريخ الفلسفة الحديثة"، و"دروس في تاريخ الفسلفة".
على الرغم من الدور الريادي لذي لعبته هذه الأعمال في الثقافة العربية، فإنها بدت مكرّسة للمركزية الأوروبية بحيث تختصر تاريخ الفلسفة بما تحقّق في مسارها من اليونان القديمة إلى ألمانيا وفرنسا وإنكلترا في العصور الحديثة، وهو نفس منهج التأريخ للفلسفة الذي كان سائداً في أوروبا في ذلك الوقت.
تبرز هذه المركزية أيضاً في مؤلّفات أخرى لكرم مثل "الطبيعة وما بعد الطبيعة"، و"العقل والوجود"، و"الأخلاق"، وقد ظهرت في هذه الأعمال النزعة التأريخية أكثر من التأمّل أو النقد، وهو أمر يمكن تفهّمه في ذلك الزمن حيث أن الإشكاليات الفلسفية الكبرى في الفكر العالمي لم تكن من ضمن ما يتجادل حوله المثقفون العرب، وهو ما جعل كثيرين يقولون بخصوص كرم أن الثقافة العربية لم يكن لها أن تنجب فيلسوفاً بل أقصى ما يمكنها فعله هو إنتاج مؤرّخ فلسفة، وإن كان كرم قد أشار في أحد مؤلّفاته بأنه يعتقد بأن مؤرّخ الفسلفة هو فيلسوف أيضاً.
في الحقيقة، لا يمكن عزل مشروع كرم عن مجمل سياقات الثقافة العربية في زمنه، وهو الذي وُلد لأسرة لبنانية في مصر، وتأثّر بمنازع النخب الشامية التي تعتبر المحرّك الأساسي للثقفة العربية في ذلك الوقت. وبعد أن درس الفلسفة في باريس التحق بـ"الجامعة المصرية" بطلب مباشر من طه حسين، ولعلّ هذا الموقع الجامعي يفسّر النزعة التعليمية التي غلبت على مؤلّفاته على حساب النقد والسجال الفكريين.
يبقى أن كتابات كرم كانت تتميّز ببساطة أسلوبية محببّة، لعلّها في ذلك الوقت كانت سبباً في تقريب الفكر الفلسفي من آلاف القرّاء العرب، وحتى يومنا هذا تعدّ كتاباته مدخلاً أوّلاً لمن يريد أن يرى مشهد تاريخ الفلسفة في عمومه ويفهم تقبّل المثقفين العرب للفكر العالمي في نهايات عصر النهضة العربية.