لم يكُن قرار السفر إلى ليبيا سهلًا، خصوصًا مع ما يشهده هذا البلد من هشاشة على كافّة الأصعدة، أمنيًا وسياسيًا واجتماعيًا، إلا أن حب الاطلاع والبحث عن الحقيقة وهوس الصّحافي الذي يجد في المناطق السّاخنة أو مناطق النّزاع والتوتر سحرًا غريبًا مُغريًا، غلب كل الهواجس والحسابات التي يُمكن أن يطرحها مثل هذا الموضوع، وحسمت أمري بأن أشد الرّحال لطرابلس ومنها إلى مصراتة ثُم إلى جبهة القتال في سرت.
طبعًا، لم يكن في جرابي سوى تلك الصّورة التي شكّلتها التقارير الصّحافية التي أطلع عليها بشكل شبه يومي، وعزمت أن أشكّل صورتي الخاصّة بي بعد أن ألامس عن قرب واقع الحياة الطّبيعية في ليبيا ما بعد القذافي، وليبيا ما بعد ثورة فبراير، وأن أصوغها في شكل يوميات؛ هذا النّص باكورتها.
وبالنّظر لفرادة الوجهة وخصوصيتها، كان لا بدّ من ترتيبات أهمّها التنسيق مع ليبيّين لتيسير عمليّة الخروج من المطار بدون مُفاجآت متى حطّت الطّائرة على التّراب الليبي، بالإضافة لانتداب مُرافق أدرى بالشّعاب ويسهر على توفير الجانب اللوجستي وأساسًا السيارة للتنقل.
بعد الحجز على إحدى شركات الطيران الليبية الخاصّة، توجّهت لمطار تونس قرطاج، الثلاثاء، برفقة صديق. وكما كان مُتوقّعًا، لم تسمح لي السلطات التونسية بتجاوز شباك التثبّت الحدودي إلا بعد تقديم "تصريح أبوي"، وهو عبارة عن ورقة مُمضاة من والدي في مضمونها أنّه يسمح لي بالسّفر إلى ليبيا، شأني شأن كل الشباب التونسي الذين لم يتجاوزوا سن الخامسة والثلاثين، والذين يُحاولون السّفر إلى بؤر التوتر حسب تصنيف أجهزة الأمن التونسي، وهي أساسًا ليبيا وتركيا والعراق والمغرب أيضًا على ما أعتقد.
في الحقيقة، لم يُفاجئني إصرار موظّف الإجراء الحدودي خاصّة مع ارتفاع عدد الشباب التونسيين المُلتحقين ببؤر التوتر، بل لم يُفاجئني حتى تعليقه بعد ختم جواز سفري عندما قال: "آمل ألا تعود لنا داعشيًا!". فرغم أني أعتبر هذا الإجراء الحدودي وغيره من الإجراءات التي تحد من حرّية التحرّك إجراء لا دستوريًا، إلا أني تفهّمت أن السلط التونسية قد ترى في مثل هذا الإجراء "اليائس" أضعف الإيمان لحماية من قد يدفعهم الجهل للبحث عن طريق الجنة بين الأشلاء.
قبل أن تُقلع الطّائرة، قمت باتصال للإعلام بأني سأصل إلى مطار "معيتيقة" بعد قرابة الساعة والنصف، توقّيًا من إمكانية تعطيل خروجي من المطار، خصوصًا أن الشباب التونسي كما هم مصدر قلق في بلدهم، هم أيضًا مصدر شبهة في ليبيا والأسباب معلومة.
بعد ساعة وربع الساعة في الجو، دخلنا الأجواء الليبية ولاحت طرابلس الجميلة رغم الوجع ورغم كل شيء. ورغم كونها مدينة ساحلية تُطل على البحر الأبيض المُتوسّط، جذب انتباهي انتشار النّخيل المُكثّف الذي تكاد تجده في كل حي، بل في كل منزل. دقائق قليلة بعد، نزلنا من الطائرة وركبنا حافلة تكفّلت بنقلنا من مدرج الهبوط إلى المطار.
في تلك الرّحلة، التي لم تدم سوى بضع الدقائق بين المدرج وبهو المطار، لمحت على الأطراف طائرات عتيقة ربما تعود لعقدين أو يزيد، تحيط بالطّائرات الحديثة الأخرى الرّابضة، لسان حالها يقول: "في قلب المشهد ليبيا جديدة تحاول إزاحة القديم وتأسيس واقع تأبى رواسب الماضي إلا أن تحيط به فعلا وتأثيرًا".
ترجّلت قاصدًا ذاك الشّباك "المُخيف" الذي سيختم جوازي لإعلان الوصول رسميًا بخطوات ثقيلة زاد من ثقلها التفرقة بين الأجانب والمواطنين الليبيين في شبابيك التثبت الحدودي. حان دوري، فتقدّمت مُبتسمًا نحو المُوظّف الذي لم يكن يرتدي، كغيره من مُوظّفي المطار، زيًا نظاميًّا يُشعرك بأن المطار تُديره سُلطة كلاسيكية كتلك التي عهدتها في المطارات القليلة التي زُرتها.
تأمّل في وجهي بعين جاحظة وسألني: "مالذي أتى بك إلى ليبيا؟". أجبت بأني صحافي وفهمت من ردّة فعله وعبر ملامح وجهه أن اتصال ما قبل الإقلاع أتى أكله وأنه كان على علم بوصولي ضمن قائمة ما، ثمّ ختم الجواز وأشار لي بأن أواصل.
توجّهت فيما بعد باحثًا عن أمتعتي، لأجد سائقي في الانتظار. بعد التّحيّة، غادرنا المطار الذي علمت من مُرافقي لاحقًا عندما حدّثته عن تواضع تهيئته أنه كان قاعدة جوية قبل أن يتم تحويله لمطار مدني، وانطلقت رحلة البحث عن نزل يُؤويني خلال الأيام التي سأقضيها في طرابلس.
في الحقيقة، لم تكن رحلة البحث عن غرفة نزل بالأمر اليسير لاعتبارات عدّة، أوّلها أني أتحرّك ضمن ميزانية محدودة باعتبار أنها على عاتقي وببادرة مني، وثانيها أن الخيار يجب أن يكون مدروسًا وأن يكون ضمن منطقة مُؤمّنة، بالإضافة إلى أن النّزل التي تحظى بحماية أمنية عادة ما تكون محجوزة بالكامل. وأما الاعتبار الرابع فيعود إلى أن الحركة داخل المدينة نفسها ليست بالأمر اليسير، خصوصًا عندما يكون أحد الأهداف تجنّب البوابات الأمنية التي قد يُؤدّي المرور بأحدها لسين وجيم قد يطول.
في النّهاية، تحصّلت على غرفة محترمة في أحد النّزل، لتنتهي بذلك مرحلة هامّة من مراحل المهمّة التي أتيت من أجلها، ولتنطلق المهمّة التالية وهي ترتيب المواعيد مع شخصيات تنتمي لمجالات عدّة، ألتقيها لتحدّثني عن واقع ليبيا اليوم، سياسيًا وأمنيًا واجتماعيًا وثقافيًا.