يُمنى سابا... موعد مع رائدات الشعر العربي

04 أكتوبر 2019
في العرض مساحة مهمة للغة والأداء الصوتي (زكريا وكريم)
+ الخط -
منذ أشهر قليلة، حين شاركت الفنانة يمنى سابا في فعالية موسيقية في مسرح زقاق في بيروت، كانت بداية موعد مطوّل بينها وبين رائدات الشعر العربي القديم. يومها، اختارت الفنانة الشابة بضع أبيات للشاعرة جليلة بنت مرّة الشيباني لتعتمدها في بناء فقرة موسيقية تجريبية من ثلاثين دقيقة. "يا ابنة الأقوام إن لُمتِ فلا تعجلي باللوم حتى تسألي/ فإذا أنت تبينتِ الذي يوجبُ اللوم فلومي واعذلي"، تقول الشاعرة الجاهلية في مطلع قصيدتها التي تروي فيها فجيعتها بمقتل زوجها كُليب بن ربيعة على يد شقيقها جسّاس.

تمسك سابا بمطلع القصيدة كطرف خيط لعملها، كأنما تمسك بيد الشاعرة التي ألهمتها لتنسجا سوياً عرضاً موسيقياً كاملاً يحمل اسم "جليلة – لحن لشاعرة". في أغسطس/آب وسبتمبر/ أيلول الماضيين، قدّمت سابا "جليلة" مرتين في بيروت؛ أولاهما في الملتقى الموسيقي أونوماتوبيا، ثم على خشبة مسرح مترو المدينة؛ حيث وقفت بمفردها أمام الجمهور حاملة عوداً إلكترونيا ليرافق صوتها خلال رحلة موسيقية امتدت طوال خمس وأربعين دقيقة.
لكن العرض، وإن كان يحمل اسم الشاعرة، إلا أنه لا يتمحور حول سيرتها ومأساتها الشخصية. تتحدّث سابا عن العرض: "كنت أبحث عن نص شعري منظوم بوزن ثابت؛ خلافا للنمط الذي اعتدت تقديمه سابقا. أردت أن أبدأ من نص متماثل الأجزاء كقاعدة لانطلاق العمل الذي يعود ويخرج عن ذلك السياق. من هنا بدأت البحث في نماذج من الشعر الجاهلي، وتحديدا لنساء شاعرات".
أما عن اختيارها لجليلة بنت مرة دون سواها، فتقول: "شدّني في البدء اسم جليلة لما فيه من موسيقى كمفردة لغوية، ثم كان اهتمامي الشخصي بمضمون مطلع قصيدتها، وهو التريّث لتبيان الحقيقة قبل الاستعجال في اللوم". تتابع سابا: "من الملهم أن تتعرف على شخصية تاريخية تتماهى معها في همومك الفردية، فيما قد يكون من الصعب أحيانا إيجاد قاسم مشترك مع أفراد في بيئتك الحالية".
تفتتح سابا عرض "جليلة" فتغنّي مطلع القصيدة المذكورة حاملة صوت الشاعرة إلى الحضور، ثم تتابع بكلماتها الخاصة مخاطبة جليلة "ابنة الضباب" على حد تعبيرها، في وصلة اعتمدت فيها سابا، إلى جانب العود، تأثيرات صوتية إلكترونية، ليتكامل الصوت والموسيقى ضمن خط سردي يعكس واقع المرأة. فالمرأة، بحسب بنت مرّة: "قاتلة مقتولة"، وتوافقها سابا حين تضيف إلى ذلك "جاهلة مجهولة"؛ في إشارة إلى تهميش دور المرأة من قبل مجتمع قائم على تعزيز دور الذكور على الرغم من جدارة المرأة ومنافستها للرجل في حقول عديدة، كما في الشعر في حالة بنت مرّة.
في الناحية التقنية للعمل، يقف إلى جانب سابا فادي طبّال كمهندس للصوت، وهو شريك الفنانة في مسيرتها الموسيقية التي بدأت بألبوم "من عفش البيت"، المكوّن من مجموعة أغنيات كتبتها سابا بين عامي 2006 و2008، وقد شاركها طبّال في العمل عزفاً وتأليفاً.
تبع ذلك الألبوم عام 2011 عمل مماثل يحمل عنوان "هالبنت ع بالها تغنّي"، قبل أن تحدث نقلة نوعية في النمط والسياق الموسيقي لدى سابا إزاء مشاركتها في إقامة فنية في كوريا الجنوبية عام 2013، نتج عنها عمل جديد بعنوان "نجوم"، أتبعته بعمل آخر عام 2017 بعنوان "أربعين".
تتحدث الفنانة عن تلك التجربة: "خلال تلك الفترة، لم أعد أفكر بالعمل كمجموعة أغنيات منفصلة، بل كعمل واحد من مقاطع متّصلة تتخلله مراحل مختلفة؛ أي وصلة تعتمد على سردية ما خلف الموسيقى مؤلفة من بداية ونهاية وتطوّر في الوسط".
وحول خيارات العزف، تقول: "تغير الصوت الموسيقي الذي أستخدمه في أعمالي، فقمت بإدخال آلة العود والتأثيرات الإلكترونية. كما أن تأثّري بالبيئة الكورية جعلني أولي اهتماما أكبر لمفهوم الصوت ودلالاته، بدلا من أن يقتصر العمل الموسيقي على اللحن والكلام".
يشكّل عرض "جليلة – لحن لشاعرة" لصاحبته محطة مهمة على صعيد فني ركّزت فيها على أهمية اللغة وربطها بالموسيقى، معطية مساحة أكبر للأداء الصوتي، أكثر من الجو الموسيقي المحيط، فالمتابع لمسيرة يمنى سابا يلاحظ فرقا واضحاً في "جليلة" لناحية قوة التعبير في الأداء الغنائي. 
هنا تشير الفنانة إلى أثر المبادرة الموسيقية "سداسي" التي شاركت فيها إلى جانب عدد من الموسيقيين تحت إشراف الفنانة كميليا جبران، وهي التي تجسّد إلهاما كبيرا لسابا في كيفية تعاطيها مع المادة الموسيقية والأداء الصوتي؛ حيث لا يلتزم الصوت بالضرورة بالأطر اللحنية، بل يتحرر منها ليكون أداة تعبيرية حرة. 
تجدر الإشارة إلى أن الفنانة يمنى سابا تحمل شهادة في علوم الموسيقى، وهي مهتمة بالعلاقة بين الموسيقى العربية والفنون البصرية العربية. أما بعد "جليلة – لحن لشاعرة"، فتستعد اليوم للعمل على مشروع بحثي جديد بعنوان "تيماء"، ستتفرّغ له في إقامة فنية في باريس، وستكون الشاعرات العربيات بدءا من العصر الجاهلي محور المشروع؛ إذ تودّ سابا التعمّق أكثر بمسيراتهن وأثرها في تشكيل التاريخ العربي.
دلالات
المساهمون