أطلقت شركة سوني علامة "ووكمان" Walkman للمرة الأولى عام 1979 في اليابان. مشغل الشرائط الصغير الذي غزا العالم، وجعل الاستماع للموسيقى فعلاً شديد الحميمية، يمكن للفرد أن يمارسه حرفياً في أي مكان، بل وأصبح "ووكمان" والسماعات علامة على العصريّة، وفي الوقت ذاته رسالة تشير إلى عدم الرغبة بسماع الآخرين أو التفاعل معهم، سواء كانوا في الشارع أو الباص أو القطار. وكأن السماعات أولى علامات التباعد الاجتماعي، والرغبة بعدم التواصل مع الآخر، لا لسبب طبيّ، بل فقط لكون صوته جزءاً من ضجيج الخارج الذي يرى فيه البعض شكلاً من أشكال الاستلاب.
قدم جهاز "ووكمان" لنا صورة الفرد المنعزل في المدينة، ذاك الذي يتجول بين الأبنية والشوارع واضعاً سماعاته، متجاهلاً كل الضجيج من حوله، وكأنها علامة علنيّة على "عدم الإزعاج"، لا تتحدث مع من يضع سماعاته لأنه في عالمه الخاص، ويعلم بدقة ما يريد، وإلى أين يتجه، فرد يتحكم بما يراه وما يسمعه، ويحاول عبر الموسيقى الاختلاف عن إيقاع المدينة وتسارعها.
حامل "ووكمان" يختلف عن المتنزه - Flâneur، كونه بعكس المتنزه لا يهتم بالآخرين، بل يغرق في ذاته ولا يريد استعراضها أو التفاعل مع من حوله، هو علامة على إيقاع العصر، ذاك الذي يستلب الفرد ويجعله قريباً من غيره جسداً لكنه بعيد وعياً. الأهم، أنه بسبب "ووكمان"، لم يعد الاستماع للموسيقى حدثاً علنياً يجتمع لأجله الأشخاص، أو يمارسه الفرد في منزله، بل أصبحت الموسيقى مرافقة لكل أنشطة الحياة.
"ووكمان" جعل الفرد قادراً على الانعزال عن المدينة، ضجيجها وعلاماتها المفروضة، ليغرق في عالمه الخاص. هذه القدرة السحريّة للجهاز والموسيقى التي تحويها جعلتها أقرب إلى أداة عجائبيّة تعيد السحر للعالم؛ فالمستمع، وحيداً، حاضر في المكان مرتين، مرة بصورة فيزيائية، ومرة أخرى في تأويله الخاص لما حوله، أشبه بمن يطفو بيننا، نراه لكن لا ندرك ما يراه، ليتحول الفضاء العام إلى أرض عجائب تكسبها الموسيقى معاني جديدة، وشخصيّة خاصة بكل فرد وكل مستمع. هذه الصورة تتكرر في العديد من الأفلام والإعلانات، من يستمع للموسيقى قد يرقص في الشارع كونه يرى العالم بصورة مختلفة، حلبة للرقص، سلسلة أفخاخ، وحوشاً عملاقة، مدينة ملاه، كل أغنية قادرة على إعادة رسم العالم في وعي المستمع، من دون أن نعي ذلك أبداً.
توقفت "سوني" عن إنتاج "ووكمان" الذي يشغل الكاسيت عام 2010، وتحول إلى غرض متحفيّ ونوستالجي يستدعي حقبة ما قبل "آيبود"، إذ يظهر "ووكمان" في الأفلام كما في "حرّاس المجرة"، من إنتاج "مارفل"، بوصفه ينتمي إلى زمن كانت الحياة فيه أبسط، والتكنولوجيا ما زالت ساذجة وساحرة، لم تهيمن بعد على كل شيء.
"ووكمان" هو الأب الروحي لـ "آيباد"، إذ يقال إن ستيف جوبز حصل على واحد كهدية من مدير شركة "سوني" حينها، وفككه وتفحص قطعه، وهو ما ألهمه بـ"آيبود"، تلك العلبة الصغيرة التي يمكن أن تختزل آلاف الألحان والأغنيات، وغيرت أسلوب تعاملنا مع الموسيقى وكيفية سماعها.
نجح رهان "ووكمان" كونه صُمم لجعل الاستماع إلى الموسيقى تجربة شديدة الشخصيّة والحميمية، استفاد مطوّرها من خصائص العصر وتقسيم العمل الدقيق والخوف من الآخر، لجعل كل فرد قادراً على الاستماع إلى ما يريد مراراً وتكراراً في أي مكان يريده وفي أي زمان. قد يقال إن ذلك أفقد الكثيرين القدرة على تذوق الموسيقى، وتحولت إلى خلفية للحياة اليوميّة، ووسيلة لتفادي الضجيج، لا تفعيل المخيلة.