"عبقرية التواصل" من العقاد إلى عاطف معتمد
خلال حديث خاطف عن الكتابة صارحني صحافي كبير بتفضيلاته من الكُتاب، ذاكرا اسم أستاذ جامعي مقرونا بصفة العبقرية، ولأني لم أطالع كتابات الأكاديمي المعروف، وهو الدكتور عاطف معتمد، وإن صادفتها كثيرا على فيسبوك، نقلت الحديث إلى موضع آخر. تصفحت بعد ذلك صفحة الرجل راغبا في أن أقع على سبب للتوصيف، حتى لو لم أجد دافعا في السابق للوقوف عند كتاباته.
أثناء اطلاعي على ما سطره الدكتور معتمد في صفحته، استدعت لفظة العبقرية لدي اسم العقاد صاحب الرصيد الأكبر من "العبقريات"، ورغم اعتباطية قد يلمسها البعض بهذا الربط، لكنه بصّرني بسر "عبقرية" لم أقع عليه في كتابات معتمد، فقد أصررت رغم ذلك أن الصحافي الكبير المهتم بشؤون الثقافة صادق في قوله، وأن الأستاذ الجامعي يحوز هذه الصفة، ولا بد أن أجد مبررا لإطلاقها عليه، ثم كان أن لمع في ذهني اسم العقاد و"عبقرياته".
هذا اللمعان تبعه إدراكي الصلة التي عقدها عقلي بين ما خطه الدكتور معتمد على صفحته وبين الأستاذ العقاد وكتاباته، وإن كان استعراض الرابط يستلزم بدايةً تطوافا سريعا بكتابات الأخير، في المقدمة منها "العبقريات".
ليس عسيرا أن تستنتج قبل مطالعتك هذه السلسلة أن إثبات الأستاذ الكبير- مثلما كان يكنيه أهل زمانه- لعبقرية من تناولهم هو إثبات سابق على أي مقدمات، ليجتهد في تبرير وتدعيم ما أثبته بدايةً، فالخلفاء الراشدون، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي- على تفاوتهم- جميعهم عباقرة، لأن الغرض الأساسي من "العبقريات" إقامة تواصل مع هذه النماذج بوصفها الأعلى مرتبة (في تاريخ الإسلام) والمثل والقدوة، ثم هو ينزع صفة العبقرية عن عنوانه لعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ويثبتها لخالد بن الوليد (بوصفه هو الآخر قدوة ومثلاً أعلى) وإن لم تكن عبقرية خالد في حاجة للتثبيت لما عرف عنه من دهاء وحنكة عسكرية، كذلك سابقيه اللذين كانا يعدان من دهاة العرب!
وبينما تقهقر العقاد مجتهدا في سد ثغرات وتفنيد روايات طعنت في ملكات عثمان ووقفت على ما أُخذ عليه من ضعف، أبرزه تسلط اسم مثل مروان بن الحكم عليه، تقدم الكاتب الكبير في جسارة فنزع عن معاوية دهاء اشتهر عنه وتناول سيرته بعيدا عن تلك الأريحية التي خص بها عثمان وجعلها الأستاذ مدخلا لعبقرية الخليفة الثالث، ثم عامل العقاد عمرو بن العاص في الترجمة له بمثل ما عامل معاوية.
ما ينتجه خطاب كهذا لا يدخل في عداد الثقافة، فهي في الأصل عملية استهدف الإنسان من خلالها التحرر أو التميز عن الطبيعة
يستعيد العقاد أريحيته بعد ذلك مع ترجمته لسعد زغلول ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي (القدوة والمثل الأعلى) فيشرع في ترجمته للأول- الأغرب بين الترجمات- وقد بلغ الستين!، سنه حين قامت ثورة 19، وذلك حتى لا يخوض الأستاذ في سيرة الزعيم الوطني -قبل الثورة- حين كان يرعاه عميد الاحتلال اللورد كرومر، ليسجل الراوي حديثا للرجلين يعبر عن رباط وثيق جمعهما، فيُطمئن كرومر سعدا: "إن خلفي سيؤيدك بكل ما في وسعه، وسوف تشتغل معه بغاية الراحة.."، ليجيبه سعد: "إني لا أفكر في شخصي، ولكن في بلدي ومنفعتها التي سوف تخسر بعدك خسارة لا تعوض".
ويسجل التاريخ مواقفا لزغلول- في تلك المرحلة أيضا- أدانها البعض، منها دفاعه عن مد امتياز قناة السويس بما يخدم مصالح الاحتلال (حسب ما ذهب إليه إجماع الحركة الوطنية وقتها)، ثم إقراره قانون المطبوعات بوصفه وزيرا للمعارف في حكومة بطرس باشا غالي، لتعادي الحركة الوطنية حينها من سيمسي زعيمها الأوحد.
أغفل الأستاذ كذلك لدى استعراضه حوادث السنين الثماني - عمر سعد زغلول في ترجمة العقاد- وقائع من قبيل انشقاق جميع مؤسسي الوفد الكبار مثل عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وإسماعيل صدقي ومحمد محمود، ومدى مسؤولية سعد زغلول عن ذلك، هذا كله لم يشأ الأستاذ العقاد الخوض فيه حتى يتجسد سعد في أكمل صورة، مبرأ من أي نقص.
إذا استكملت استعراض كتابات العقاد الأخرى فلن تخرج- على غزارتها وتعدد مساراتها- عن غرض حددته بدايةً وهو التواصل، فتبصره في مسار ثان لكتاباته، مثل "الفلسفة القرآنية" و"المرأة في القرآن" و"التفكير فريضة إسلامية" و"حقائق الإسلام وأباطيل خصومه" و"الديمقراطية في الإسلام" و"الإنسان في القرآن"..، وكتابات مثل: فلسفة الغزالي، ابن رشد، ابن الرومي، ابن سينا.. ومسار آخر جاءت كتاباته ذات موضوع واحد وإن تعددت عناوينها مثل "الثقافة العربية" و"مطالعات في الكتب والحياة" و"أثر العرب في الحضارة الأوروبية"..، ليحشد فيها العقاد نقولا يثبت عبرها ما للعرب من فضل وأثر على الثقافة الغربية، وكيف كان هذا الأثر.
نحن أمام خطاب لا غاية له غير التواصل، من ثم فهو قائم بشكل رئيسي على الشرح والتفسير، وهو بطبيعة الحال بحث في الأسباب لا يكون إلا من خلال نماذج، وفي حالة العقاد فإن كتاباته تقوم على النموذجين الاستنباطي والتكويني، الأول ينطلق من مسلمات معطاة ما من سبيل لاختبار صحتها، بينما يُغلب الثاني حشد المعلومات والحقائق على ممارسة التفكر والشك، وينطلق هذا النموذج من قاعدة (إبستمولوجية) تفترض وجودا خارجيا للحقيقة لتنحصر مهمة الذهن في إدراك الحقيقة القائمة بذاتها (المستقلة عن الذات المدركة)، بمعنى آخر أن الذات لا تتدخل في بناء الحقيقة، ليهيمن السائد ويتسلط.
إذا ارتددت إلى الدكتور عاطف معتمد أجدني وقد فقدت حماسة لازمتني مع كتابات العقاد فلا أرى داعيا لاستعراض شبيه، لأن ما سطره الأول كما وكيفا، وإن التزم فيه ذات الإطار التواصلي، ليس سوى هامش على متن كتابات الثاني، وقد يعترض البعض على اعتمادي صفحة "فيسبوك" وسيطا للنشر مثل الكتاب، مع أنها أهم اليوم من أي وسيلة نشر أخرى، وما ينشر عليها جاد إلى حد أن تعرَّف الصحافي الكبير -من خلالها- على الأكاديمي الشهير عبقريا، إلى جانب جمهور واسع يتفاعل مع ما يسطره الدكتور معتمد، عن أسماء مثل: نجيب محفوظ "فيلسوف التعليم والتفكير"! والعقاد "العبقري" ويوسف إدريس "الأديب المبدع" وجمال حمدان "المفكر العبقري" وزكي نجيب محمود "الفيلسوف العبقري".. إلخ.
ما ينتجه خطاب كهذا لا يدخل في عداد الثقافة، فهي في الأصل عملية استهدف الإنسان من خلالها التحرر أو التميز عن الطبيعة، أي أن الثقافة في عمقها فعل تحرر دائم للذات الإنسانية، بينما التواصل ليس غير قيود تحول دون تحقق فعل التحرر أو الثقافة، ليدخل المنتج التواصلي في إطار آخر يخاصم الثقافة، وافترض له سمات أربع:
• الاعتراف -صراحة أو ضمنيا- بتفوق الجانب أو الشخص المراد التواصل معه.
• يلتزم الكاتب بالشرح والتفسير، في شكل من أشكال الكتابة هو أقرب لما عرفته كتب التراث من حواشي على هامش النص الأصلي.
• في تلك النوعية من الكتابة لا يبحث الكاتب عن المعنى فهو يملك المعنى.
• تخضع معانيه دائما للحس العام أو المشترك المجتمعي.
التواصل الذي تشكله تلك العناصر لا يكون مع (من/ ما) يكتب عنه الكاتب فقط، بل كذلك مع قارئ يجد جاذبية ومتعة في إبصار معنى نبيل يتمثل تواصلا بماضٍ أو نموذج مقدر، وهي جاذبية ومتعة لا يقع عليها عادة في الأعمال النقدية، لذلك كتابات مثل كتابات العقاد بالأمس ومعتمد اليوم تصادف إقبالا واسعا، رغم أنها لا تهب القارئ ثقافة، وأصحابها ليسوا مثقفين ولا أنصاف مثقفين ولا أرباع مثقفين، حتى وإن عدهم البعض عباقرة، فعبقريتهم إذا سلمنا بها، لا تعدو كونها عبقرية في "التواصل".