محمد محمود... "أعز" من سعد زغلول وأكثر "نزاهة" من النحاس
لا يوجد تاريخ بعيداً عن رؤية موجهة، فاختيار ما يستحق التدوين تقرره الأهواء والمصالح، وفق ذلك تصبح الوقائع مادة للآراء، التي تظل جميعها مشروعة ما دامت تحترم حقيقة الواقعة. تحت هذه المظلة سأروي حكاية مغايرة عن واحد من أبرز رجال ثورة 19، الرواية الرسمية أدانته باعتباره ديكتاتور، في الوقت الذي تسامحت فيه مع أخطاء وجرائر أبطالها، لتموه عليها وتتجاوزها ولا تتوقف إلا عند نموذج مثل محمد محمود باشا، بطل حكايتنا، لتدينه.
في تلك الحقبة حين كان الاحتلال هو من يدير مصر فعلياً، أقر المعتمد البريطاني كرومر سياسة تقضي بتوظيف المصريين في الوظائف الحكومية ودفعهم إلى الترقي فيها، ليجرى تعيين محمد محمود وكيل مفتش بوزارة المالية (1901)، ويتدرج بالوظائف الحكومية إلى أن أمسى مديراً للفيوم (1906) انتقل بعدها إلى البحيرة مديراً حتى 1916.
ثقافة محمد محمود الإنكليزية، إذ كان أول مصري يتخرج من جامعة أكسفورد، اعتبرت ميزة جعلته مفضلاً لدى إدارة الاحتلال مثل ما رأى البعض، لكن هذه الثقافة لم تحرضه على أن يكون أداة طيعة في أيدي المحتل، إذ شهدت تلك الفترة صدامات بينه والموظفين الإنكليز، وكثيراً ما أغضب المستشارين والمفتشين أصحاب اليد الطولى في المديريات، بسبب ما عُرف عنه من استقلال في الرأي واعتزاز بالنفس، وأثار ذلك بالطبع سخط دوائر الاحتلال، ووصل الأمر إلى حد أن لفقوا له تهمة وأجبروه على الاستقالة (1916).
مع الخديوي عباس كانت له مواقف تؤكد ما اتصف به الباشا من أنفة ونزاهة جعلته يتصدى لأعلى رأس في الدولة بسبب تمسكه بتطبيق القانون على أحد موظفي الخاصة الملكية، ويُحكى أن عباس زار الفيوم بعد الواقعة، وحاول توجيه إهانة إلى محمد محمود بطريقة غير مباشرة، فنسب الخديوي تصرف الباشا إلى أحد مرؤوسيه وعلق قائلاً: "أنت عندك ضباط لم يتربوا كفاية"، فجاء رد محمد محمود سريعاً ومفجعاً: "بالعكس يا مولاي.. موظفو خاصتك هم الذين لم يتربوا بما فيه الكفاية".
إثر هذه الحادثة نقل محمد محمود إلى مديرية البحيرة، لكن بعد فترة ليست طويلة غفر الخديوي لرجلنا ما تقدم، بل ومُنح رتبة الباشوية، والسر أنه عمد إلى مخالفة الإنكليز (كان الخديوي بتلك الفترة يناوئ الإنكليز محاولاً انتزاع شيء من سلطانه) في واقعة تخص أحد قادة الحزب الوطني، حيث طلب الإنكليز من الباشا أن يأمر بتفتيش منزل القيادي، إذ كانوا على ثقة بنه يخبئ أسلحة بمنزله، ففتش محمد محمود المنزل ورفع تقريراً بعدها أنه لم يجد شيئاً، وكان هذا الموقف سبباً في غضب الإنكليز عليه؛ فقد كانوا واثقين من وجود أسلحة بالمنزل، إلى جانب ذلك أصدر محمد محمود قراراً بإلغاء تدريس اللغة الإنكليزية كمادة أولى بالمدارس الأميرية، وخلال إدارته ازداد نشاط العناصر الوطنية المناصرة لتركيا أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث سجلت التقارير البريطانية عن أنه وإن كان غير موال للأتراك لكنه "من المؤكد أنه أداة من أدوات الوطنيين"، واستمر الباشا في سياسته تلك إلى أن ضج الإنكليز بأفعاله فلفقوا له تهمه، ودفعوه دفعاً إلى الاستقالة (1916).
كان من بين الذين صعدوا أيضاً في المناصب الرسمية جراء السياسة الإنكليزية سعد زغلول، فمن "نائب قاض" بمحكمة الاستئناف، متنقلاً في المناصب القضائية مدة 14 عاماً، حتى وقع عليه اختيار اللورد كرومر وزيرا للمعارف.
أهملت الرواية الرسمية كذلك ما اتصف به الرجل من نزاهة، فطوال مشواره السياسي لم تطله أي شبهة تمس نزاهته المالية
عن هذا الاختيار يذكر أحمد شفيق باشا رئيس ديوان الخديوي عباس حلمي أن من أسبابه وقتها إبعاد سعد عن مشروع تأسيس الجامعة، وذكر شفيق أن عباس حلمي أمره أن يذهب وإسماعيل باشا أباظة لمقابلة سعد زغلول ليطلبا منه الاستمرار في الإشراف على المشروع، لكن إجابة سعد لم ترض الخديوي، وبالفعل انسحب سعد بعدها من لجنة الجامعة، ليتعطل العمل بها.
في تلك المرحلة تماهى سعد زغلول بدرجة ما مع سياسة المحتل، يؤيد هذه الفرضية جملة من الحوادث بعد واقعة الجامعة، وكان منها اعتراض سعد رغبة القوى الوطنية وتوجه الجمعية العمومية في العودة لتدريس المواد التعليمية باللغة العربية بدلاً من الإنكليزية التي كان المحتل قد فرضها، وتحجج الوزير أنه "لا يمكن للذين يتعلمون على هذا النحو أن يتوظفوا في الجمارك والبوستة والمحاكم المختلطة والمصالح العديدة التابعة للحكومة"، مع أن سعد نفسه وهو القاض السابق ووزير المعارف لم يكن يجيد الإنكليزية.
تعددت بعدها مواقف الرجل ملتزمة ذات الخط، فدافع سعد زغلول عن مشروع إنكليزي بمد امتياز قناة السويس 40 عاما بعد انتهاء الامتياز الأول الذي كان من المفترض أن ينتهي عام 1968، وقبل أن تمرر الحكومة المشروع أو تعلن عنه، استطاع محمد فريد الحصول على نسخة منه، لينشره بجريدة اللواء مبيناً مدى ما سيلحق مصر من غبن وما سيطاولها من ضرر إن وافقت حكومتها على المشروع الإنكليزي، وفي الجمعية العمومية كُلف كل من طلعت بك حرب وصابر باشا صبري بإعداد تقرير عن الاتفاقية، وانتهى التقرير المقدم عن أن الاتفاقية الجديدة تكبد البلاد خسائر فادحة.
كل ذلك لم يردع سعد زغلول عن الوقوف في الجمعية العمومية ليدافع عن مشروع مد امتياز القناة الذي رفضه بداية ثم عاد وامتثل لرغبة الخديوي والمعتمد البريطاني جورست بأن يكون هو من يعرض الاتفاقية على الجمعية العمومية، لكن بيانه البليغ وحججه المتعددة لم تجد صدى لدى الجمعية، حيث رفضت المشروع بإجماع خرج عنه سعد زغلول والوزراء ونائب واحد. قبلها أقر سعد زغلول بصفته وزيرا للمعارف في وزارة بطرس باشا غالي قانون المطبوعات (1909) الذي استهدف حرية الصحافة وكبح جماح القوى الوطنية، لتخرج المظاهرات احتجاجا وتطوف حول بيت سعد منددة به، ويتلقى رسائل تتوعده بالقتل، متهمة إياه بالخيانة.
وليس أدل على هذا الرباط الوثيق بين سعد والمحتل من ذلك الحوار الذي جرى حينما تقرر رحيل كرومر عن مصر، ليُطمئن الرجل سعدا: "إن خلفي سيؤيدك بكل ما في وسعه، وسوف تشتغل معه بغاية الراحة.." فيجيبه سعد: "إني لا أفكر في شخصي ولكن في بلدي ومنفعتها التي سوف تخسر بعدك خسارة لا تعوض".
ضرب التاريخ الرسمي صفحا عما سجله الرجلان "سعد ومحمد محمود" في تلك الصفحة من حياتهما، فلم تكن الرواية التبجيلية لتسمح بأن يتم التشويش على صورة بطل من أبطالها، في حين لم تتحرج في طي تلك الصفحة من تاريخ محمد محمود، بعدما أدانته كـ ديكتاتور.
وإذا تابعنا معالجة الرواية الرسمية لسيرة محمد محمود، سنجدها تغفل أدواره في الحياة السياسية، سواء أثناء أحداث الثورة أو فيما تلى ذلك، حيث أعرضت عما بذله من جهد كان الأهم في تشكيل ائتلاف للأحزاب (الأحرار الدستوريين والوفد والحزب الوطني) سواء في وجود سعد (الذي قفزت الرواية الرسمية فوق مسؤوليته عن انشقاق جميع مؤسسي الوفد الكبار) أو بعد تولي النحاس رئاسة الوفد والائتلاف، وبلغ من حرص محمد محمود على استمرار الائتلاف، تفكير قيادات حزبه جديا في الإطاحة به من رئاسة الحزب.
أهملت الرواية الرسمية كذلك ما اتصف به الرجل من نزاهة، فطوال مشواره السياسي لم تطله أي شبهة تمس نزاهته المالية، واعترف خصومه قبل أصدقائه بنزاهته وعفته فيما يخص التكسب بأي صورة من وراء مناصبه الوزارية. وتعددت الأمثلة المدللة على ذلك، فحين كان وزيرا للمالية (1927) رفض قبول أي مبالغ عن عضويته في مجلس إدارة ترام الرمل، لأنه لم يحضر جلساته، وكانت قد جرت العادة أن يتلقى الوزير مكافأة شهرية بحكم منصبه، وجرت العادة كذلك أن يوافق البرلمان على مخصصات "غير منظورة" للوزارة من دون بيان أوجه صرفها، لكن الباشا وضع تقليدا بمثوله أمام المجلس النيابي معددا أوجه صرف المبلغ المخصص لهذا البند.
وكان مريضا لفترة طويلة (1941) فانقطع عن حضور جلسات مجلس النواب، ورغب في الاستقالة؛ لأنه يتقاضى راتبا رغم غيابه، لكن هناك من تدخل لإقناعه بالعدول عنها، فوافق شريطة التبرع بكامل مرتبه إلى المؤسسات الخيرية، إلى جانب موقفه الشهير مع موظف الخاصة الملكية، وغير ذلك.في المقابل حاصرت مصطفى النحاس عشرات الاتهامات الجدية حول ذمته المالية، فكان الكتاب الأسود، الذي أخرجه الزعيم الوفدي الكبير وصديق النحاس الأقرب مكرم عبيد، ليسجل فيه العشرات من وقائع الفساد التي تخص النحاس وحده بخلاف ما طال وزارات الحزب، منها محاباته لأنسبائه واستغلال نفوذه في تربح زوجته وأقاربها بطرق غير مشروعه، وشراء أرض زراعية من فؤاد سراج الدين بأقل من ثمنها الحقيقي باسم الزوجة، وسيارة فخمة بنصف ثمنها من تاجر سيارات مقابل رد عشرين سيارة كانت وزارة التموين قد صادرتها، والكثير من الوقائع الأخرى بتفاصيلها ومستنداتها.
لا تقف الرواية الرسمية عند هذه الصورة التي تبدل في ملامح الزعيم الوطني كثيرا، لتتخطاها إلى ممارسات محمد محمود أثناء توليه رئاسة الوزراء فتصمه بالديكتاتورية، وهي محقة فالرجل رغم دوره البارز في ثورة 19 وأدواره الوطنية بعدها، أوقف العمل بالدستور وحل البرلمان وعطل الحياة النيابية لدى توليه الوزارة (الأولى)، ولا يوجد ما يبرر فعله، إلا أن ذلك جرى في ظل إطار عام حكمه، الفجر في الخصومة بين الأحزاب بهذا العصر، فيذكر مكرم عبيد في كتابه أن وزارت النحاس كثيرا ما فصلت موظفين بالجهاز الإداري للدولة ومنهم العمد، لتعين أتباعها و"محاسيبها"، في نهج كان معروفا في هذا العصر للسيطرة على الانتخابات، وهو ما اشتكى محمد محمود من تبعاته في عريضة رفعها إلى الملك (1930)، وسجل فيها تدخل حكومة النحاس في انتخابات مجلس الشيوخ من خلال الموظفين، لكنها في كل حال انتهاكات لم تصل إلى حد ما قام به محمد محمود، موجها سهما نافذا إلى البند الثاني لشعار الثورة "الاستقلال والدستور"، لكن ألم يطأ النحاس بقدمه فوق البند الأول "الاستقلال" عندما حُمل إلى الوزارة في 4 فبراير 42 فوق الدبابات الإنكليزية؟، لتغض الرواية الرسمية الطرف عن تلك الواقعة أو بالأحرى عن إدانة النحاس.
ما تقوله حكايتنا المستندة إلى وقائع مثبتة بغير تأويل، أن الاهواء هي من وجهت رواية التاريخ الرسمية، فلا تقع بها على أي ضوابط أو معايير تضبط أحكامها، باستثناء ربما حاجة المجتمعات إلى البطل، لتمسي الرواية الرسمية بذلك واحدة من تلك الروايات الرخيصة التي يستهلكها الناس بغرض التسلية، حيث يجري دوما تنسيق أحداثها، واستعمال آليات مثل التأويل والاجتزاء، من أجل ابتزاز عواطف الجمهور، وبدلا من أن يفسح التاريخ مجالا أوسع للأفق الإنساني يؤطره داخل حدود بالغة الضيق، فيها نماذج مثل: سعد زغلول والنحاس، أبطال لا تشوبهم شائبة، ونموذج مثل: محمد محمود مجرد ديكتاتور.