أتحدث العربية وصمتي أمازيغي
يجعلونك تخاف أن تقول إنك أمازيغي، رغم أنك حين تقولها لا تقصد بها أي نوع من الفخر أو التباهي أو التميّز عن الآخرين، بل تقصد بها فقط أن تُعرّف نفسك، كما هي تاريخياً وجغرافياً.
عشت سنوات طويلة وأنا أُعَرِّف نفسي بأنّي عربي. هذا ما أخبرني به أحد أعمامي رحمه الله، حين قال لي إننا عرب جئنا من اليمن أو من السعودية عبر تركيا، أو شيئاً من هذا القبيل.
حاولت مراراً أن أفهم ما معنى أنّي عربي رغم أنّ بلاد العرب بعيدة، وأنّ العرب يطلبون مني دائماً أن أتكلم العربية كي يفهموني حين أتكلم الدارجة المغربية. كنت أعتقد أنّ الدارجة المغربية عربية، لكن أصدقائي العرب أحبطوني كلّ مرة، وجعلوني أفهم أنّ الدارجة المغربية في حقيقة الأمر لا تختلف في شيء عن لغة مجهولة ومعقدة، ويصعب فهمها أو تعلّمها، كالبرتغالية مثلاً.
مرّت سنوات طويلة، لم يكن يشغلني خلالها، أن أكون عربياً أو برتغالياً أو أمازيغياً أو حتى من سيبيريا، فأنا لا أؤمن أبداً بمعنى أيّ انتماء عرقي، بل أجد الأمر مُفرغاً من أيّ محتوى جوهري، وشبيهاً إلى حد كبير بالانتماء جزافاً وبمحض الصدفة إلى إحدى الفرق الكروية من أجل تشجيعها بطريقة الهوليغانز. بل أؤمن في حقيقة الأمر بنوع آخر من الانتماء المختلف الذي يصعب تسميته أو إحالته إلى عرق: انتماء إلى الشعراء والفنانين والفلاسفة والشخصيات الأسطورية، عبر عصور مختلفة غير خاضعة للتراتب، وأمكنة وقارات مختلفة، وأعراق مختلفة بعضها نقي، وبعضها الآخر ملوّث ومتسخ.
مثلاً: أشعر أنّ جدي الأول هو أفلوطين (فيلسوف يوناني) أو نبوخذ نصر (ملك كلداني) أو البطل الأسطوري جلجامش أو كريشنا (أحد آلهة الديانة الهندوسية) أو هان فاي (فيلسوف صيني)، وأنّ عمي الأول هو الفارابي (فيلسوف) أو لاو تسو (فيلسوف صيني) أو هوميروس (شاعر إغريقي)، وأن ابن سينا (طبيب وفيلسوف) هو عمي الثالث، وأنّ الشاعر أبا نواس عمي السكير المطرود من العائلة، وأن الشاعرة البولندية فيسوافا شيمبورسكا عمتي الحكيمة، وأنّ الفيلسوف فريدرك نيتشه هو خالي الوحيد. نيتشه نفسه صاحب نظرية الانتماء هذه، بحيث إنه لم يشعر في يوم بأنه بولندي نسبة إلى والده ولا ألماني تجري في عروقه دماء أمه الآرية، بقدر ما شعر دائماً بأنه حفيد الإسكندر الأكبر المقدوني.
الانتماء العرقي شبيه بالانتماء جزافا وبمحض الصدفة إلى إحدى الفرق الكروية من أجل تشجيعها
ثم كلّ الشعراء، والموسيقيين، والرسامين، والنحاتين، وراقصات الباليه الجميلات، وبائعي العرق سوس للعطشى، والمتسوّلات العمياوات النحيفات، ومزوّري بطاقات الهوية والأرصدة البنكية الكبيرة، والثوار الفوضويين الأناركيين أينما كانوا، وقراصنة البحار وأحفادهم، وقراصنة الإنترنت... كلهم إخوتي وأخواتي، ليس مجازاً فقط، أو استعارة، بل حقيقة ثمّة رابط قوي بيننا منسوج من خيوط الهواء.
بالتالي، لا يمكنني أبداً، مثلاً، وضع كلّ أخوالي الحقيقيين الذين رضعوا ذات الحليب الذي رضعته أمي، في كفة، ووضع نيتشه في كفة أخرى، فكفة نيتشه طبعاً ستتفوق عليهم جميعاً، بل وعلى كلّ أخوال وخالات العالم، بحيث لن تحتاج بعده إلى خال ولا إلى خالة إلى يوم القيامة.
لكن، بعيداً عن هذا الطيران الحرّ غير المحدود للكائن دون خريطة جينية في أعماق التاريخ وفوق تخوم الجغرافيا، فقرابتي القديمة مثلاً، من لاو تسو (فيلسوف صيني) لن تمنحني اليوم جواز سفر صينياً، ولن تجعل عينيَّ مسحوبتين إلى الخلف كالصينيين، كذلك فإنّ محاوراتي الطويلة القديمة في أحلامي تحت ضوء القمر مع لوركا (شاعر إسباني) كأي صديقين، لن تثبت في مختبرات الإسبان جيناتي الإسبانية، بل سيجدون في التحليل غصن أركان.
في الغالب، الذين يحاولون الانتماء إلى كل العالم دفعة واحدة يكونون من الذين لا يملكون قطعة أرض حقيقية خاصة بهم، حتى وإن كانت مساحتها متراً مربعاً واحداً، لا يملكون قبراً، أو حتى خطوة فقط يقفون فوقها. أو في الأغلب، يكونون من النوع الذي يعدّ العدة لاستعمار العالم.
بعد سنوات طويلة من القراءة والبحث، اكتشفت بالصدفة في كتاب ضخم عن أصول القبائل المغربية أنّ قبيلتي لم تأتِ من اليمن إلى المغرب، ولا من السعودية، ولا من تركيا، ولا من أي مكان آخر، كما قال عمي، بل هي قبيلة مغربية أمازيغية منذ الأزل، قبل حتى وصول القردة إلى جبال الأطلس.
كان إحساساِ غريبا أن أكتشف أنّ أصولي أمازيغية في لحظة خاطفة، وقد أحسسته سنوات طويلة بحدس الطين للطين
لقد كان أجدادي الأوائل في حقيقة الأمر هم الدوم وشوك الجرنيج وأزهار شجرة الدفلى الجميلة الحارّة وبذور الأركان، لقد نبتوا هنا على الأرجح حين هطل أول مطر حمضي على العالم، بعد نهاية الانفجارات الكونية الفيزيائية الأولى، ونهاية حروب الكوسموس.
قبيلتي قبيلة أمازيغية تمّ تعريبها بالكامل إذن. كان إحساساً غريباً أن أكتشف ذلك في لحظة خاطفة، وقد أحسسته سنوات طويلة بحدس الطين للطين. لكن ذلك لم يكن ليغيّر أيّ شيء في دمائي، فدمائي الحقيقية لا تجري في عروقي، بل في الهواء، وفي أنهار المغرب كلّها، بكل تنوّعها واختلافها.
أصبحت أمازيغياً في ثانية، بين ليلة وضحاها، بعد أن كنت عربياً، وقد استحق ذلك احتفالاً باذخاً بنخب. ليس لأنّ العرق الأمازيغي أفضل، أو العكس، بل فقط لأني فجأة أصبحت سليل الضحية المنهزمة، عوض أن أكون سليل المنتصرين. كذلك فإنّ الكاهنة ديهيا العظيمة أصبحت عمتي الكبرى، والملك يوبا الأول ذا اللحية الملكية المجعدة رفقة أفلوطين ونبوخذ نصر وجلجامش وكريشنا وهان فاي، أصبح أول جد لي، كذلك فإني لا أتكلم الأمازيغية ولا أفهمها، سوى أني أحسّها وأكتبها بلغة أخرى. لا أكتب بالأمازيغية ولا أتكلمها، سوى أنّ صمتي: أمازيغي.