أثر الفكر العربي في العلوم
عندما نتكلم عن حضارتنا، تاريخنا، علومنا العربية.. التي صنعها أجدادنا، يتوجب علينا فهمها بشكلها الحقيقي، أي كيف حصلت؟ وإلى أي مدى تأثرت بها الحضارات الأخرى؟
كما هو شائع ومعروف، إنّ العلوم نشأت في اليونان وانتقلت عبر اللغات المختلفة، ومنها السريانية، إلى الحضارات التي تليها وصولاً إلى العربية. وبعد ضعف وانهيار الدولة العربية انتقلت العلوم إلى أوروبا بداية عصر النهضة الأوروبي في القرن الرابع عشر الميلادي.
وبالتأكيد، ولّد هذا الانتقال حالةً من تغيّر العلوم وتطوّرها. فالحضارة عندما تأخذ من حضارة أخرى حتماً ستتركُ أثراً، وهذا الأثر يجب تتبّعهُ ومعرفته. ولو رجعنا إلى فترة ضعف الحضارة اليونانية (وليس انهيارها)، سنجد أنها كانت في فترة سيطرة الإمبراطورية الرومانية، فأخذت الأخيرة كلّ العلوم من اليونان بعد استعمارها، ولم يكن هناك علوم رومانية وإنما علوم يونانية. وبعد مجموعة من الخلافات كان أهمها تمسّك اليونانيين بلغتهم، وفي المقابل عجز الرومانيين عن فهمها، حدث انقسام في الإمبراطورية الرومانية، إلى شرقية سميّت أيضاً (البيزنطية)، والتي اعتنقت الدين المسيحي، وإمبراطورية رومانية غربية اتخذت من روما مركزها، والتي سقطت في ما بعد على أيدي الجرمانيين.
ومن هنا نفهم أنّ الفكر والعلوم اليونانية لم تمت، وإنما رجعت تعيش عن طريق التفكير الكنسي، حيث تقوم الكنيسة بقولبة العلوم حسب مفهومها الديني الذي فهمته، إلى أن تزامنت مع الفتوحات العربية التي جاءت في القرن السادس إلى السابع الميلادي. وعند هذهِ الفترة، لم تكن الحضارة العربية الإسلامية حضارة عابرة وناقلة ومترجمة للعلوم حتى وصولها الى أوروبا، بل تفوقت بعلوم مهمة جداً، ومنها علما الفلك والرياضيات، وهذا كان لهُ علاقة مباشرة بالدين، فالتساؤلات القائمة على العبادات كموعد صلاة العصر، والذي كان جوابهُ عندما تكون قامة الرجل على طول الظل، فهذا يصح في مكة ويصح في المدينة، ولكن عند مشارف بلاد الشام في فترات في السنة، لا يمكن لظلّ الإنسان أن يصل إلى طول قامته، وأيضاً فيما يتعلّق بتفسير الآية القرآنية (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). ولكن عندما تكون بعيداً عن مكة لا يمكن معرفة موقع القبلة.
علينا أن نعي أهمية الحضارة العربية في العلوم الإنسانية، وكيف شكلت نقلة مهمة في الفكر الإنساني
هنا بدأت الحضارة العربية الإسلامية إدخال الحسابات الفلكية إلى صلب الدين فتميّزت بها، وبدأ حساب المثلثات وحسابات اتجاه القبلة، وذلك عن طريق عمل مثلثات معقدة على الكرة فتتقاطع عند زاوية معينة. كما كان هناك اعتقاد مسبق بكروية الأرض عند العرب، وعند انتقال هذهِ العلوم الى أوروبا وجد علماء الفلك الأوروبيون ومنهم، بيتر أبيانوس، أنّ الوصف اليوناني للكواكب لا يسمّي الكوكب كاسم مباشر، بل يصفهُ فيقول هذا نجم في مقدم الصورة للدب الأكبر، بينما الحضارة العربية، والتي أخذ عنها الأوروبيون، والتي كان علماء الفلك العرب يوّفقون بينها وبين اليونانية، كانت عادة تسمّي النجم باسم واحد معين، كأن يقال هذا نجم الفرد، أو هذا نجم المرزم، فاكتشفوا أنّ الأسماء العربية أسهل للترجمة والنقل، ومنها انتقلت إلى اللاتينية في عصر النهضة.
وعلى غرار الفلك والرياضيات، برع العرب في الطب والفلسفة والكيمياء والموسيقى والفيزياء... إلخ.. وما زالت الحضارة الأوروبية تستمد أفكارها من العلماء العرب كالفارابي وابن سينا والكندي وابن الهيثم، فتدرّس علومهم في جامعات الغرب. كما تؤكد السجلات الغربية أنّ كتاب "القانون في الطب" لابن سينا بقي مقرّراً جامعياً حتى القرن الثامن عشر، واعتمدتهُ جامعة بولونيا مقرّراً جامعياً من القرن الثالث عشر حتى القرن الثامن عشر. ومن هذا المنطلق علينا أن نعي أهمية الحضارة العربية في العلوم الإنسانية، وكيف شكلت نقلة مهمة في الفكر الإنساني.
وفي النهاية علينا أن نتساءل: لماذا بعض الجامعات العربية تدرّس بلغة غير العربية؟ ولماذا لا تدرس مؤلفات العلماء العرب في الجامعات العربية؟