أحبّ هذه المدينة
سأغادر مقهى باليما الآن بعد أن شربت ليمونادة "بومس". منذ شهور لا أشرب القهوة، لأنّها عدو يقدّم نفسه لك في هيئة صديق. حتى في البار، يعجبني أن أطلب "بومس"، وأن أستمتع بتمايل السكارى وتباطؤ حركاتهم وإفشائهم السريع لأسرار أمن الدولة، بينما أظلّ أنا صاحياً بعيون جاحظة كعيون الجواسيس.
سآخذ هذا الشارع الطويل إلى نهايته، على يساري مبنى البرلمان وعلى يميني "الروبيو" بائع الكتب، حيث أرى دائماً شبح محمد خير الدين غير مرئي سوى للشعراء. أُحيّيه بيدَيّ، فيردّ إليّ التحية بيده كالعادة مع ابتسامة، وأنا أتوّغل في الزحام.
سأستمتع قليلاً بالتفرّس في ملامح العابرات الأنيقات، والعابرين خلفهن، والأطفال محمولين في الأحضان، أو على عربات مدفوعة، أو يحْبُون في عرض الشارع هاربين من آبائهم. ثمّ سأشتري بطاطا مقلية، آكل وأتمشى ببطء شديد، متذوّقاً طعمها المقرمش والمالح.
حين أبلغ "السويقة" (سوق شعبي تراثي قديم في الرباط) سأكون قد بلغت سعادتي المطلقة: ضجيج الباعة والبضائع "الفالصو" بكلّ الأشكال والألوان، وروائح الشواء، والزحام المسائي الأليف، وأذان المغرب قادماً من الصومعة العتيقة العالية، رخيماً بصوت الفقيه الطيّب القروي الأعمى.
أستمتع بتمايل السكارى وتباطؤ حركاتهم وإفشائهم السريع لأسرار أمن الدولة، بينما أظلّ أنا صاحياً بعيون جاحظة كعيون الجواسيس
في سوق السبّاط (الأحذية) المظلّل بسقفه القصبيّ العالي والبديع، سأقيس حذاء دون أن أشتريه، تعجبني كثيراً هذه الهواية: تجريب الأحذية الجديدة وإيهام أصحابها أنّي زبون محترم بجيوب مليئة بالدولارات.
- جرب هذا الحذاء يا أستاذ إنه سيليق بك أكثر.
ينحني ويضع الحذاء الأنيق قرب قدمي بعد أن يمسح مقدمته بخفة السحرة.
- نعم، إنّه حذاء جيّد، سأجربه، شكرا لك.
- خذ المرآة، ها هي، سأثبتها أمامك.
- نعم ثبّتها هناك لنرى كيف سيبدو هذا الحذاء الأنيق في قدمي. نعم إنه حذاء جميل. شكراً لكم لأنكم تحضرون أحذية جميلة تفوح منها رائحة الجلد ورائحة العيد، سأرجع لاحقاً، هل تفتحون كلّ يوم؟.
- نعم نفتح كلّ يوم باستثناء الجمعة.
-عظيم أنّك أخبرتني بشأن الجمعة، لم أكن أعرف هذه المعلومة المهمة، شكراً لكم جميعاً.
بعد ذلك، سأصعد أدراج "الأوداية" (حي سكني وموقع سياحي في الرباط) عاقداً يديّ خلف ظهري كسمسار عقارات، متفرّساً في غيوم المساء المتناثرة فوق القلعة كعمائم الأجداد. سأتأمل المحيط من ذلك العلو الشاهق بشاعرية كبيرة وصمت.
سأنزل بعد ذلك الأدراج الحجرية القديمة التي تصلب التاريخ داخلها على مهل، متأملاً رسوخها في الخطوة كما في العين، في اتجاه مطعم المحيط، سأشرب ليمونادة بومس أخرى قبالة الأمواج الهائجة. قد أكتفي فقط بالتمشّي قليلاً بمتعة على الساحل الرملي القصير جيئةً وذهاباً، حاملاً حذائي في يديّ، متطلعاً بعيداً جداً إلى انعكاس فضّة قمر أوّل الليل في الماء..
أحببت دائما هذه المدينة هكذا، كما لو أنها بنت جميلة من حيّي الهامشي، تتمشّى معي حافية على الساحل الرملي، خفية عن أهلها، راكلة الأمواج بغنج.