أنياب الحنين
الفضاء هنا مزيج بين الطبيعة والمباني، في توزيع عادل للمساحة بين العشب والخرسانة. وبالتالي، الطيور والعصافير كثيرة ومتنوّعة ونشيطة في كلّ الأوقات، إلى حدّ يمكن اعتبارها من السكان الهولنديين الأصليين كاملي المواطنة.
كلّما فتحت النافذة ورأيت حماماً، وعصافير، وغرباناً، وطيوراً أخرى لا أعرف أسماءها، تطير، حتى أثناء المطر، من شجرة إلى شجرة، ومن سقف بيت إلى سقف آخر، ومن مدخنة إلى أخرى، دون أن تتوقف عن الهديل والزقزقات والنعيق.
مشهد غريب. لا أدري إن كان بالضبط معجوناً ببعض الحزن والأسى واللوعة، أم بكثيرٍ من الفرح والسعادة. مشهد طيور وعصافير تطير في المطر وتغرّد.
الأغرب من كلّ ذلك هو تغريد طيور أخرى ليلاً، عصافير صغيرة وضئيلة على الأرجح. يصل صوتها باستمرار إلى أذني في ساعاتٍ مختلفة من الليل. تغريدٌ غريبٌ وغامضٌ ومجروحٌ بالعتمة، وبالصقيع. ليست طيوراً هولندية، كما اعتقدت أوّل الأمر، وليست عصافير طليقة في الفضاء كعصافير النهار، وليست بنت هذا المكان وهذه البيئة. إلا أنّها، رغم ذلك، تساهم في تحويل الليل إلى صوت مرافق لصوت الريح وهدير قناة مائية مجاورة، بزقزقاتٍ شبيهة باضطراب سفينة من الكريستال وسط لجّة من المياه المعتمة والناعمة في حلم. زقزقات كما لو أنّها قادمة من أقصى ما يمكن، كما لو أنّها حنين ناء وبعيد.
اكتشفت بعد ذلك أنّ أحد الجيران يربّي العصافير في قفصٍ كبيرٍ، يضعه في حديقته الخارجية أمام المارة. إنّه مهاجر قادم من أوروبا الشرقية، من منطقة جبلية تحديداً، بينما لا جبال هنا على الإطلاق. شيوعي قديم ومعارض متقاعد. أحضر معه عدداً من عصافير بلاده، أو حصل عليها بطريقة ما، كي يسمعَ صوتَ ليل قريته البعيدة باستمرار كما قال. ثمّ أضاف: "لا أنام إلا بصعوبة إن لم أسمعها تغرّد"، وهو يشعل سيجارته اليدوية التي لفّ تبغها ببطءٍ شديدٍ وبحرفيةِ من يملك فائضاً من الوقت للحنين.
زقزقات كما لو أنها قادمة من أقصى ما يمكن، كما لو أنها حنين ناء وبعيد
مهاجر غريب الأطوار، يرتدي باستمرار زيّ العمال رغم أنه متقاعد، إنّه الزي الموّحد لحفاري المناجم. نحيف وأشقر شقرة ممهورة بالنيكوتين، طويل وعيناه عصفوريتان. يربّي، إضافة إلى العصافير الليلية، جوقة من كلاب "الكنيش" التوائم المتطابقة، شكلاً وحجماً، عمراً ونباحاً. وكلّ مساء يحشرها داخل صندوق ذي عجلات، يربط الصندوق بالدراجة ويقود القافلة في اتجاه الغابة والبحيرات المجاورة. وحين تراه فوق دراجته والصندوق ذو العجلات خلفه، يصعب عليك أن تخمّن أنّه مليء بالكلاب، لأنّ الصندوق صغير والكلاب صغيرة جداً كما لو أنّها عصافير أيضاً.
يبتعد بالدراجة بعد أن يقف دقيقة منتظراً الإضاءة الخضراء، فيبدو من بعيد وهو بزي العمل، كما لو أنّه في مهمة رسمية مصيرية، مهمة توصيل طرود فضائية عاجلة، بينما يبدو الصندوق خلفه كما لو أنّه شاحنة تنقل المساجين من سجن فيدرالي إلى سجن فيدرالي آخر. كلابه اعتادت على ذلك أيضاً. هي تعلم جيّداً، ودون شكوك أو ريبة، أنّ الصندوق ليس سجناً، بل يعني بالنسبة إليها النزهة واللهو والركض والمرح والحرية، بالتالي تركض من تلقاء نفسها إلى الصندوق وتدخل متحمّسة ومتحفزة بجنون مضحك...
مع الوقت، أصبحتُ أشعر أنا أيضاً أنّه من الصعب عليّ أن أنام دون أن أسمع تغريد تلك العصافير الليلية المهاجرة غريبة الأطوار كصاحبها، شكلاً ومضموناً، والتي تذكرني بشيء ما، شيء بعيد، ولا أعرف كنهه بالضبط، سوى أنه دون شك ضبابيّ وشاهق وجارح...