أين "بوسمان" القضية الفلسطينية؟
في العام 1995، كان اللاعب البلجيكي جان مارك بوسمان على موعد مع التاريخ. لم يكن اللاعب مرّشحاً لإحراز كرة ذهبية، أو محطّماً لرقم قياسي جديد، أو فائزاً بلقب فردي أو جماعي؛ لكن ما فعله اللاعب غيّر عالم كرة القدم وسوق انتقالات اللاعبين إلى الأبد.
قبل ذلك التاريخ بخمسة أعوام، ومع انتهاء عقد اللاعب البلجيكي مع ناديه آر إف سي لييج، عرض عليه النادي تجديد العقد براتب مخفض بقيمة الربع مقارنة بعقده السابق. وعندما رفض اللاعب العرض المقدّم، أدرجه النادي في قائمة الانتقالات، حيث كانت القوانين تمنح النادي حق الحصول على أموال مقابل انتقال اللاعب إلى فريق آخر، حتى بعد انتهاء عقده. كذلك كانت اللوائح المطبّقة في بلجيكا تمنح النادي حق إيقاف اللاعب في حال فشل الطرفان في التوّصل إلى اتفاق؛ وهو الإجراء الذي اتخذه النادي بحق بوسمان. رفع بوسمان دعوى قضائية ضدّ كلّ من ناديه والاتحاد البلجيكي لكرة القدم، متهماً إيّاهما بحرمانه من الانتقال إلى الأندية الأخرى. وبعد عام من التحقيقات، أضاف بوسمان الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (يويفا) إلى قائمة الدعوى.
وفي ديسمبر/ كانون الأول من العام 1995، قضت محكمة العدل الأوروبية لصالح بوسمان. وبموجب قرار المحكمة، أصبح من حق اللاعب، عند انتهاء عقده، أن ينتقل إلى الفريق الذي يشاء من دون أن يتطلّب ذلك موافقة أو مبلغا ماليا يُدفع لناديه السابق. لم يكن هذا القرار الوحيد، فقد أصبحت قوانين العمل الأوروبية نافذة على الاتحاد الأوربي لكرة القدم، الذي كان يضع قيوداً على مشاركة اللاعبين الأجانب؛ ما أتاح فرصة للأندية للتعاقد مع لاعبين من الاتحاد الأوربي من دون احتسابهم ضمن " كوتا" الأجانب التي يفرضها الاتحاد القاري.
بعد دعوى بوسمان أصبح من حق اللاعب عند انتهاء عقده، أن ينتقل للفريق الذي يشاء، دون أن يتطلّب ذلك موافقة أو مبلغ مالي يُدفع لناديه السابق
في الأيام الماضية، بدأت الأندية الأوروبية اتخاذ حزمة من الإجراءات التأديبية تجاه عدد من اللاعبين، وكان العامل المشترك في هذه الاجراءات هو موقف اللاعبين مما يحدث من انتهاك لآدمية الشعب الفلسطيني، والتغوّل على حقه في الحياة، حيث أصدر نادي "ماينز" الألماني قراراً بإيقاف نشاط لاعبه الهولندي ذي الأصول المغربية أنور الغازي، بعد تعاطفه مع الفلسطينيين. وبالرغم من أنّ اللاعب قد حذف منشوره، إلا أنّ النادي قرّر إيقاف اللاعب عن النشاط الرياضي بسبب عدم توافق ما عبّر عنه اللاعب مع قيم النادي.
لم يكن حال الظهير الجزائري يوسف عطال، لاعب نادي نيس الفرنسي، أفضل من نظيره الهولندي، فقد فتحت النيابة الفرنسية تحقيقاً أولياً للبحث في اتهامات بـ"التحريض على الإرهاب" و"نشر الكراهية" موّجهة ضد عطال. وعقب هذه التطورات، أصدر النادي الفرنسي، يوم الأربعاء، قراراً بإيقاف اللاعب حتى إشعار آخر، رغم حذفه لما نُشر.
امتداداً للقرارات التأديبية بحق المتضامنين مع القضية الفلسطينية، أعلن نادي بايرن ميونخ أيضاَ فتح تحقيق مع لاعبه المغربي نصير مزراوي.
يستخدم المجتمع الغربي مسألة حقوق الإنسان والحريات، وفق ما يشاء، متهماً خصومه بما يشاء، في وقت تستمر فيه انتهاكات حقوق الإنسان في مواضع يتعامى عنها العالم الأوّل
إذاً، يستخدم المجتمع الغربي مسألة حقوق الإنسان والحريات وفق ما يشاء، متهماً خصومه بما يشاء، في وقت تستمر فيه انتهاكات حقوق الإنسان في مواضع يتعامى عنها العالم الأوّل، بل ويسعى لإخراس الألسن التي تشير إلى الانتهاكات؛ فهم أصحاب الحق الأوحد في تسمية الأشياء، وتحديد ما هو لائق وما هو غير لائق!.
وبينما يرضخ اللاعبون متنازلين عن أبسط حقوقهم في حرية التعبير التي يُعيّن الغرب نفسه رسولاً وحامياً لها؛ لن يكون نصيبهم من هذه الحقوق سوى الفتات، الذي يمرّ عبر مصفاة القيم التي تتناسب مع معاييرهم واعتباراتهم.
ليس الأمر سهلا، فكما يذكر بوسمان أنّه كان يتمنى أن يخوض هذه المعركة (تحرير اللاعبين من الاستغلال) شخص آخر بدلاً عنه؛ لكنه كان ذلك الشخص. كذلك المتضامنون بحاجة إلى بوسمان خاص بهم، يقاضي (مهما كلّف الأمر) هذه الأندية التي تكمّم الأفواه المدافعة عن المستضعفين. نعم، هم بحاجة لقرار فصل، يجبر الآخرين على احترام قيمهم، بحاجة إلى أن تكون كرة القدم سياسة لهم كما الآخرين؛ فمن يكون بوسمان القضية الفلسطينية؟