إسرائيل والخرائط بعد "طوفان الأقصى"
في العقد الأخير، تراجعت القضية الفلسطينية عن مركزيتها التقليدية في الوعي العربي والدولي بفعل أزمات إقليمية كبرى. وفي هذا السياق، استغلت إسرائيل حالة الفراغ والتشتت لفرض وقائع جديدة على الأرض مُعتبرة أن اللحظة الراهنة، بعد عملية طوفان الأقصى، هي فرصة تاريخية لتوسيع مشروعها الاستيطاني وتصعيد أجنداتها الأمنية والسياسية.
منذ اندلاع عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، استغلت الحكومة الإسرائيلية الأحداث مبرراً لتوسيع مشاريعها التوسعية. وجاء خطاب اليمين المتطرف في حكومة بنيامين نتنياهو ليعتبر اللحظة الراهنة "فرصة تاريخية" لإعادة تشكيل الواقع الفلسطيني مستغلاً حالة الانقسام الفلسطيني والظروف الدولية المتوترة. وقد عبّر وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير عن ذلك قائلاً: "الأمن يبدأ من الأرض، والاستيطان هو السلاح الأهم في حربنا ضد الإرهاب". بينما أشار وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إلى أن العمليات العسكرية هي مجرد مرحلة أولى من خطة أكبر لتحقيق "السيطرة الكاملة" على ما أسماه "أرض إسرائيل التاريخية".
سياسة الأرض المحروقة وإعادة ترتيب السكان
في سياق العمليات العسكرية على غزة، برزت خطة غير معلنة تهدف إلى إعادة رسم التركيبة السكانية والجغرافية للقطاع، إذ اعتمد الجيش الإسرائيلي استراتيجية تعتمد على قصف كثيف للشمال، ما أجبر عشرات الآلاف من الفلسطينيين على النزوح جنوباً. وتماشياً مع هذه السياسة، صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت قائلاً: "المعركة في غزة ليست مجرد رد على هجوم. إنها فرصة لتغيير الواقع الجيوسياسي بما يخدم أمن إسرائيل بشكل طويل الأمد".
ورغم أن فكرة إعادة احتلال غزة بالكامل أثارت انقساماً في الأوساط الإسرائيلية، فإن التيار المتطرف في الحكومة يعتبر هذه اللحظة مناسبة لإعادة الاستيطان داخل القطاع، مبرراً ذلك بأنه سيحقق الردع الكامل ويعيد السيطرة العسكرية المباشرة.
الضفة والقدس
بينما تستعر الحرب في غزة، استغل المستوطنون الفرصة لتصعيد اعتداءاتهم في الضفة الغربية. وازداد بناء المستوطنات بوتيرة غير مسبوقة تزامناً مع تصريحات من نتنياهو تؤكد أن "التوسع الاستيطاني ليس فقط حقاً تاريخياً، بل أيضاً ضرورة أمنية لإسرائيل".
في القدس الشرقية، تعدت الاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى الخطوط الحمراء، في ظل دعوات صريحة من جماعات الهيكل المتطرفة لتغيير الوضع التاريخي القائم للمسجد. وفي هذا السياق، قال الحاخام يهودا غليك، أحد أبرز دعاة الاقتحامات: "الأقصى يجب أن يكون جزءاً من السيادة الإسرائيلية الكاملة، والوقت قد حان لتحقيق هذا الهدف".
أما الفلسطينيون، فقد اعتبروا هذه التحركات تصعيداً خطيراً ينذر باندلاع انتفاضة جديدة. وقد وصف الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة الممارسات الإسرائيلية بأنها "استراتيجية لإشعال حرب دينية في المنطقة، ضمن مخطط تصفية القضية الفلسطينية بشكل كامل".
خطة الحسم وتجاوز حل الدولتين
يروج اليمين المتطرف الإسرائيلي لخطة "الحسم"، وهي مشروع يهدف إلى إنهاء القضية الفلسطينية بفرض حلول أحادية الجانب. ويؤكد بتسلئيل سموتريتش هذه الرؤية بقوله: "الدولة الفلسطينية لن تُقام أبداً على أرض إسرائيل. الفلسطينيون إما أن يقبلوا العيش تحت سيادتنا أو يرحلوا". من جهة أخرى، يعتبر محللون دوليون أن هذه الاستراتيجية تتجاهل تماماً القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة. فقد صرّح الباحث الأميركي نعوم تشومسكي قائلاً: "إسرائيل تستغل الانقسامات العالمية لترسيخ واقع الفصل العنصري، وتحويل الأراضي الفلسطينية إلى سجون مفتوحة".
التحديات الفلسطينية والإقليمية
في مواجهة هذه التحديات، تبدو الاستجابة الفلسطينية غير موحدة. ويرى البعض أن غياب استراتيجية وطنية موحدة يعزز قدرة إسرائيل على فرض الأمر الواقع. وقد حذّر الكاتب والمحلل الفلسطيني مصطفى البرغوثي من أن "المخططات الإسرائيلية الحالية تهدف إلى القضاء على المشروع الوطني الفلسطيني بأكمله. وما لم تُوحَّد الجهود الفلسطينية، فإن الخطر سيتجاوز الأرض ليشمل الهوية".
دولياً، هناك ردود فعل خافتة مقارنة بحجم الانتهاكات. وقد اعتبر المبعوث الأممي للسلام في الشرق الأوسط تور وينسلاند أن "الوضع الراهن ينذر بانفجار شامل إذا لم يتم التدخل لوقف التصعيد الإسرائيلي".
نحو أي مستقبل؟
بينما يسعى قادة اليمين المتطرف لاستغلال اللحظة لتصفية القضية الفلسطينية، تظل هناك تساؤلات حول قدرة الفلسطينيين على مواجهة هذه المخططات، سواء عبر المقاومة الشعبية أو الدبلوماسية. الأمر الأكيد هو أن استمرار هذه السياسات الإسرائيلية سيؤدي إلى تصعيد الصراع، ما يهدد استقرار المنطقة برمتها. وكما قال المفكر الراحل إدوارد سعيد: "القضية الفلسطينية ليست فقط مسألة حقوق مسلوبة، بل أيضاً اختبار للضمير الإنساني".