سورية بعد الأسد: تحديات بناء المؤسسات

28 ديسمبر 2024
+ الخط -

ما جرى في سورية مؤخراً، لا سيما بعد سقوط نظام الأسد، يفرض علينا قراءة موضوعية لما آل إليه الوضع في البلاد. فالمرحلة تتطلّب تأملاً عميقاً في تعقيدات المشهد السوري، وفهماً دقيقاً للتحديات التي تواجه عملية بناء الدولة والمؤسسات، لضمان عدم تكرار أخطاء الماضي التي أدّت إلى الانهيار.  

لقد شهد الوطن العربي تحوّلات سياسية عميقة مع نشوء الدول الوطنية، لكن هذه التحوّلات جاءت مشوبةً بنماذج حكم شمولية ألغت الخطّ الفاصل بين الدولة والحزب الحاكم. ففي العراق وسورية، مثّل حكم حزب البعث ذروة التماهي بين الحزب والدولة، حيث تحوّلت مؤسسات الدولة، وخاصة العسكرية والأمنية، إلى أدواتٍ حزبية خالصة.  

في العراق، أُغلّقت أبواب الكليات العسكرية والأمنية أمام غير البعثيين، وأُقرّت قوانين تُعاقب بالإعدام على أيّ نشاط سياسي خارج إطار الحزب. هذا التداخل لم يكن فقط سياسياً بل امتدّ ليشمل البنى المذهبية والعشائرية، حيث سيطر البعث السني في العراق على المؤسسات الأمنية والعسكرية، في حين تركزت السلطة في سورية ضمن الطائفة العلوية وعائلة الأسد.  

عقب الغزو الأميركي للعراق عام 2003، جاءت قرارات سلطة الائتلاف المؤقّتة لتعميق أزمة الدولة العراقية. وكان أبرزها قرار حلّ الكيانات العسكرية والأمنية، مما أدى إلى تفريغ المؤسسات من الكفاءات وترك فراغ أمني خطير ساهم في بروز حركاتِ المقاومة المسلحة. لاحقاً، أدّت عملية دمج المليشيات ضمن القوات المسلحة إلى خلق بنى عسكرية وأمنية غير مهنية، ما زاد تعقيد المشهد، وأنتج مؤسسات خاضعة لولاءاتٍ حزبية وطائفية بدلاً من الدولة.

الحلول يجب أن تكون مبنية على فهم عميق لبنية المجتمع السوري وتحدياته، مع الابتعاد عن تكرار أخطاء الماضي

وفي سورية، الوضع لا يبدو أقلّ تعقيداً، حيث تواجه الإدارة السورية الجديدة معضلات تتعلّق بمستقبل المؤسّسة العسكرية والأمنية، التي تشكّلت خلال عقود من حكم البعث، بما تحمل من بنى طائفية وحزبية. ومع وجود المليشيات التي تشكلت خلال الثورة السورية، باتت المشكلة أكثر تعقيداً. والتصريحات بشأن حلّ هذه المليشيات ودمجها في مؤسسات الدولة لا تزال غامضة، ولا توجد خطط واضحة للتعامل مع هذا الإرث الثقيل.  

إنّ تجاهل هذه القضايا أو محاولة حلّها بقراراتٍ سطحية، مثل حلّ المؤسسات العسكرية أو الاعتماد على المليشيات في تشكيل جيش جديد، قد يؤدي إلى مزيد من التدهور. ففي العراق، كانت نتائج مثل هذه القرارات كارثية، حيث تحوّلت المليشيات إلى قوى مهيمنة ضمن الدولة، مستغلة أدواتها لتحقيق مصالحها الخاصة. هذه التجربة تقدّم درساً واضحاً للسوريين حول مخاطر تجاهل تعقيدات الوضع الراهن.  

يقول الباحث فرانسيس فوكوياما: "الدولة القوية هي التي تتمتّع بمؤسسات مستقلة وقادرة على تطبيق القانون بعيداً عن التدخلات الحزبية أو الشخصية. عندما تتحول المؤسسات إلى أدوات بيد الأحزاب، فإنها تفقد وظيفتها الأساسية وتصبح عوامل تفكيك بدل بناء". هذه المقولة تلخص بدقة المعضلة التي واجهها العراق وسورية تحت حكم البعث.  

مع وجود المليشيات التي تشكلت خلال الثورة السورية، باتت المشكلة أكثر تعقيداً

التجربة العراقية تقدّم دروساً بالغة الأهمية للسوريين، ولكن تنفيذها يتطلب وعياً بخصوصية الحالة السورية. والحلول يجب أن تكون مبنية على فهمٍ عميق لبنية المجتمع السوري وتحدياته، مع الابتعاد عن تكرار أخطاء الماضي. 

إنّ إعادة بناء مؤسسات الدولة في سورية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الحاجة إلى هيكلةٍ شاملة وعادلة تضمن استقلالية المؤسسة العسكرية والأمنية عن أيّ ولاءاتٍ حزبية أو طائفية.  

ختامًا، نذكّر بما قاله الصحافي البريطاني روبرت فيسك: "في الشرق الأوسط، تُبنى الجيوش ليس للدفاع عن الأوطان، بل للدفاع عن الأنظمة الحاكمة". هذه العبارة تجسّد التحدي الأكبر أمام السوريين في المرحلة المقبلة، أي بناء جيش ومؤسسات أمنية للدولة، وليس لأفراد أو أحزاب أو طوائف. وتحقيق هذا الهدف لن يكون سهلاً، لكنه السبيل الوحيد نحو دولةٍ مستقرّةٍ ومستدامة.  

كاتب وصحافي لبناني
وسيم فؤاد الأدهمي
كاتب وصحافي لبناني. كتب في عدد من الصحف اللبنانية والعربية، وشغل عدة مناصب فيها.