إنتاج الخزي وتمرير الانحراف
في حفريات ميشال فوكو عن تاريخ السجون والرقابة والعقاب، تطرّق لشيء مهم عن الشرطة الفرنسية وثنائية إنتاج الانحراف وممارسة الرقابة، سمّاه: le système vidocq. إذ تحدث الفيلسوف الفرنسي في كتابه "المراقبة والمعاقبة ولادة السجن"، عن وجود تقليد تبنته الشرطة الفرنسية يتمثل في توظيف المجرمين في صفوفها، بعدما قام بالاطلاع بنفسه على بعض الملفات، فخلال معاينته للأرشيف وقعت عينه على المدعو"vidocq"، وهو شخص منحرف ومجرم تمّ توظيفه في جهاز الشرطة وحصل على ترقيات عديدة إلى أن أصبح رئيس قسم الشرطة، فالأمر لم يعد منوطاً بالحفاظ على العدالة، ما دام يترأس ذلك الجهاز مجرمون علنيون.
وليس فوكو وحده من اكتشف هذه الانحرافات، فما سماه بـ le système vidocq، عايشه الصحافي الاستقصائي الفرنسيّ، فلنتين غندروت، حينما اخترق جهاز الشّرطة، إذ كتب في كتابه "شرطيّ"، عمّا يحدثُ من بشاعة داخل بدلة الشّرطة، تلكَ الأقمشة المليئة بالجريمة ومُحاربتها، وذلك بعدما عمل متخفياً لثلاث سنوات وعاين عن قُرب مأساة العُنف والكراهية غير المبرّرين، والتّي يمارسها رجال الشرطة مدفُوعين بالكراهية والعُنصريّة.
يقول غندروت إنّه أصيب بالصّدمة عندما علم بحقيقة ما يجري داخل أروقة مكاتب الشّرطة، فالشّباب ذوو البشرة السّوداء أو من أصُول عربيّة أو حتّى المُهاجرون، يستخدم بعض العناصر تجاههم أوصافاً، مثل "الأوغاد"، ويضيفُ: "شاهدت ثلاثة أو أربعة من رجال الشّرطة يضربُون مهاجرين بعدما وضعُوهم داخل السّيارة التابعة للجهاز قبل أن يُطلقا سراحهُما على بعد خمسة كيلومترات من المكان الذّي اقتيدوا منهُ". إذن، إنّ نائل لم يكُن الضحيّة الوحيدة، بل الضّحية التّي أوقعت بهم، فعدد الذّين قتلتهم الشّرطة الفرنسيّة بحجّة عدم الامتثال للحاجز هو 18 شخصاً مدنياً أعزلَ لم ترصدُهم الكاميرات وتمّ طيّ ملفاتهم، لكن هذه المرّة حدث ما لم يُخطّط له، وأفشل ممارستهم، إذ أخرجتها الكاميرات التّي رصدتهم للعلن، حيث لا مجال للهُروب من ارتكاب الجريمة، وهنا يبرزُ سؤال الطّبيعة البشريّة: هل هي خيّرة أم شريرة؟
إنّها مسألة معقدّة، لكنّنا نميلُ للرّأي القائل إنّ الطّبيعة البشريّة لا هي خيّرة ولا هي متوّحشّة، بل هي نتاج وطبائع تُكتسب، فالبيئة والخبرات هي التي تلعب دوراً في تشكيل جانبك، لأنّ المتوحّش ضدّ الآخرين، أيّ مجموعة بحسب نظريّة الهويّة الاجتماعيّة، هو مُتعاطف ورحيم مع مجموعته. وبالتّالي يَظهر جانب متناقض ومزدوج في السّلوك البشريّ. وعلى هذه النوافذ البشريّة القابلة للاستدراج، بنيت مؤسسات لجذب الآخرين إلى هوّيتهم الاجتماعيّة عن طريق ضخّ الكثير من القيم المدمرة لهويّتك فيك، المنهزم وجوديا يفقد كينونته، ينطلق من الآخر المعرّف، هرُوبا من النبذ، ومن ثمّ تتبدّد مقدرته على الوفاء لما كان عليه، وتظهر حياته وكأنها عيبٌ وعارٌ وجب الشّعور تجاهها دائما بالخزي، فهل يُولد الناس مهزومين، أم يتمّ إنتاج خزي وجودي يليقُ بتحطيم إرادتهم؟
إنّ خرّيجي مؤسسات الخزي همّهم ألا يكون الضّحية ضحية ما دام أنّه مسلم، أو عربي، أو أفريقي
يقول الفيلسوف الفرنسي، فولتير، إن البشرّية لم تعبد إلاّ أولئك الذيّن تسبّبوا في هلاكها، إنّ القوة التّي مارسها القويّ هي ما ستقُوده لإنتاج أخلاقه وتعميمها، بل وسيشمل ذلك كل المؤسّسات، سواء على الصّعيد الاقتصادي أو السّياسي كما هو الأخلاقي، ومن ثمّ ستكون قوانين القويّ هي السّائدة، حتى داخل مؤسسة الأخلاق التي تعدّ من أخطر المؤسّسات، وسيقبل النّاس بما يُملى عليهم لا ما هم عليه فعلاً، ففي داخلها تتمّ أفظع عمليات التّذويب وإعادة التشكيل، ستتبنّى الكثير من الأشياء لأنّه لا يحق لك تبنّي غيرها بدايةً، ومن بعدها سيصبح ذلك إرثاً مفروغاً منه. ومن بين تلك الفظائع توريث "الخزي"، الشّعور دائما بأنّك مدين بشيء ما لذلك الطّرف، ما يجعلُك تُعاني من الشّعور بالعار ومن ثمّ بالذّنب، وأخيرا بالخزي، خزي لا دخل لك فيه، بل تمّ ضخّه نحو قواعدك الذاتية مثلما يتمّ ضخّ دم آخر داخل شرايينك عبر الكثير من المُمارسات، إنّك أقلّ طالما ولدت في حيّز جغرافيّ ما، أو اعتنقت مذهباً ما، أو ولدت على لون ما، لقد أقنعوا الكلّ بخزي لا يعنيهم، حتّى وصل ذلك الضّخ إلى أعلى مثقفينا، وأعلى علمائنا... سينظُر هذا الفرد الذي جعلته الصّدفة ينتمي إلى دوائر الخزيّ إلى نفسه على أنّه مُطالب دائما بتبرئة نفسه أمام العالم، إنّه معني بطريقة ما، حتّى لو حدث شيء يبعدهُ بملايين الكيلومترات ووجب عليه الاعتذار عنهُ، فنجد عنفاً ما قد وقع في فرنسا، يُشعر الكثير من الأشخاص الحاملين للخزي الممرّر لهم، بأنّهم ليسوا بخير، الدّافع ليست نظرتهم الحياديّة التّي تسقط عنها الجنسيات، فالعنف لا يحمل جنسيّة أحد، إنّه صفة بشريّة، لكنّ هؤلاء الأفراد خصيصاً تستيقظُ فيهم أدوات الخزي التّي ضُخّت لهم عن طريق سياسات وبرامج جعلت منهم الآن أصوات وأيادي القويّ، إنّهم يدافعون عنها من مُنطلق ذلك الشّعور لا من مُنطق العدالة، ويرون في دفاعهم هذا تخلّصاً ممّا يفعله الآخر، إنه شبه اعتذار، وتقديم للولاء تحت ذريعة الأخلاق نفسها. هنالك نقيصة عاشوا معها طيلة حياتهم، أُنتجت لهم خصّيصاً حتى لو تمركزوا في مراتب مُحترمة، إنّهم أقلّ دائماً بالرّغم ممّا يقدّمونه، إذ لديهم شعور دائم بتقديم المزيد وصولاً إلى مرحلة الاستنزاف، فتجدهم أوّل من يُهاجم إذا حدث شغب ما ببلاد الغرب قبل معرفة الأسباب، وحتى لو عُرفت الأسباب، فإنّهم يصرّون على تبرير الفعل وإدانة ردّة الفعل.
قُتل الشاب القاصر "نائل" ببرودة دم، فقالوا إنّ سجلّه مليء بالقضايا، لكن سرعان ما نُفي الأمر، فالفتى لم يقُم في حياته بأيّة مخالفة، وليست لديه سوابق كما ادّعى المتورّطون في الخزي المُبرمج، ثم قالوا إنّه لا يحقّ له الهُروب، وأنّ من حقّ الشرطيّ أن يدافع عن نفسه، وبيّنت الكاميرات أنّ الفتى لم يهرب، بل رفع قدمه لتتقدّم السّيارة بسبب الضّرب الذي تلقّاه داخلها، ما أفقده التّوازن قبل أن يطلق الشرطي النار عليه من مسافة صفر.
حينما تحوّلت الأخلاق إلى مؤسسة وسُلبت منها ماهيتها، أنتجت الكثير من الأمراض باستغلال القوانين الوضعيّة
إنّ خرّيجي مؤسسات الخزي همّهم ألا يكون الضّحية ضحية ما دام أنّه مسلم، أو عربي، أو أفريقي، فيصرخُون في جملة ورثوها عن الأفواه الصامتة التّي وجدت لأنفسها أفواهاً من نفس المُجتمعات المعادية لها ولقيمها لتتحدث عنها، لتتبنى صوتها وتتبجّح بذلك "عودوا إلى بلدانكم"، متناسين أنّ تلك البلدان أيضا أصبحت بلدانهم، ولدوا فيها، تربّوا تحت سمائها، وداخل مدارسها، وتشبّعوا بقيِمها. بلدان ليست أفلاطونيّة لا تنتج إلا ما هو خيّر وجميل كما يعتقدون، لقد تبنى هؤلاء أخلاقيات المؤسسات غير الأخلاقية، وأصبحوا غربيين أكثر من الغرب ذاته، هذه الخلايا التي تشبّعت جيداً بالخزي ستكون اليد التّي تضرب من حديد، من منّا لا يتذكر الخادم "ستيف" في فيلم "جانغو"، ذلك الأسود بمبادئ شديدة البياض، وكيف كان يعامل "جانغو" الزّنجي القادم لتحرير زوجته مُعاملة سيئة حتى قبل أن يكتشف خطته، كان العبد المتوحّش تجاه كلّ من يذكرونه ببشرته، كانوا مرآته دون أن يقف أمام المرآة، وكان يريد أن يثبت ما لم يستطع الحصول عليه عن طريق بشرته السوداء، وهو البياض الشديد الذي ورثه عن طريق الكراهية لا الولادة، لقد عمل بنفسه على تعقّب وكشف ما يخفيه البطل، إذ اعتبره عبداً وجب قهره منذ البداية بسبب بشرته، فمكانته كرئيس الخدم كانت عزاءه، واعتقد أنّه حارس البشاعة، ولطالما تفوّق الحراس على أربابهم وتفنّنوا وتمادوا في تنفيذ قيمهم.
فهل يستطيع الإنسان الوقوف تجاه آلة الخزي الكاسحة؟
لطالما تمكنت الطبيعة البشريّة بقدرتها الهائلة من اختراع النّظريات لتفسير عيُوبها وأخطائها، فالذّي يسرق من صاحب العمل يعلّل فعلته بضعف الرّاتب، والذّي يقتل شاباً يعلّل فعلته بعدم الامتثال، كلّ شيء قابل للتّبرير إذا كنت قابلاً للموافقة، وشعورك بالخزي يساعدُك على تخطّي مسألة الضّمير والنيّل، ما قد يعرّض مصلحتك في أن تكون خارج الدّوائر المرسومة لك قبل أن تولد وتعُود إلى انتمائك الذّي تملّصت منه، بأن ادّعيت أنّك تبنيت قيم الآخر القويّ، فالخزي شعُور ورثته أجيال كثيرة عبر الكثير من المُصطلحات التّي صُنعت على يد أخلاقيين لا علاقة لهم بالأخلاق، فالأخلاق حينما تحوّلت إلى مؤسسة وسُلبت منها ماهيتها، أنتجت الكثير من الأمراض باستغلال القوانين الوضعيّة، لقد ربتك هذه المؤسسة على الشعور بالخزي كلّما خرجت عن قوالبها، أنت الذي تنحدر من أفريقيا، أو من العالم العربي، لست إلا إنسانا أقل، مهما قدّمت، شعورك بالخزي مرافق ودائم لأنّه أصبح حقيقتك، استطاعوا تأكيد ذلك لك، وصدقت بدورك لأنك لم تكن مستعداً للمقاومة، تريدُ ما هو موجود، أنت مستهلك للقيم لا منتجاً لها، أنت كسول وجبان، لقد أجاب "كلفين" الثري المجنون العاشق لمصارعة الزنوج الذي لعب دوره ليوناردو دي كابريو (سيد "ستيف" نوعاً ما)، عمّا لا نريد سماعه، إذ أرجع بقاء العبُودية ووجودها إلى الزّنوج أنفسهم، فلو ثاروا على رأيه، أو قتلوا أسيادهم لاحترمهم الأسياد وأعطوهم حريتهم، وشرح ذلك بجمجمة أحد خدم والده السابقين، وأنّ المنطقة الخاصّة بالفكر المُستقلّ لدى البيض يوجد بها لدى الزنوج ما يفسّر خضُوعهم، إنّ هذه النظريّة التي تبناها البيض تمنحهم تبريراً لفظاعتهم، وفي نفس الوقت تمنح الآخر وقته للتفكير، ماذا لو قتلت السيد؟ لماذا يتمادى طرفٌ ولا يتمادى الآخر؟