لبنان: إشكالية تدهور البطل التقليدي

04 أكتوبر 2024
+ الخط -

تعيدُ الحروب صياغة البطُولة بالطّريقة التّي تعيدُ فيها صياغة مفهُوم أبطالها، ساحات الحُروب نفسها لا تُحافظ على تشكيلها التّقليديّ، إنّها تدفعُ بالأبطال نحو التنافس، لا على الصّعيد البدنيّ أو العسكريّ بل على الصّعيد الأخلاقيّ، إنّها تُعيد فكرة الصّراع حتميّةً بشريّة. فصراع الآلهة يعدّ أمراً معتاداً عند الإغريق، بل إنّ الآلهة اليونانيّة كانت طبيعة وجودها الصّراع ضد بعضها بعضًا، ومن ثمّ ينتقل هذا الصّراع إلى الأرض بين البشر. فمأزق الصّراع بين طرفين لا يتحقّق أو لنقل لا يكتملُ بمواصلة اختراع الأبطال لأنّهم أبطال، بل بجعل هؤلاء الأبطال يحقّقون بطولتهم. النّهاية التّي تتحكم فيها الواقعيّة، والبداية التّي يبزغُ فيها "المُنقذ". فحياة البطل شغلت البشريّة، وعلى رأسهم الباحثُون كجوزيف كامبل "البطل بألف وجه"، دين ميللر "البطل الملحميّ"، وسيدني هوك في عمله "أنثروبولوجيا البطل في فلسفة التّاريخ". اليونان بملحمتي الإلياذة والأوديسة، مسرحيات سوفوكليس، مرورًا بالأبطال في أوروبا القروسطيّة، فهل في إمكاننا العيشُ دون أبطال؟ وإن صحّ أمر أنّه لا وجود للعيش بلا بطل، فهل يبقى ذلك الرّمز ثابتًا في زمن متحرّك حيث الإنسان يفكك ماضيه ومعهُ يفكك أبطاله؟ هل أبطالنا التقليديون سيقُودوننا نحو الهزيمة بدل تاريخهم الطويل والمليء بالانتصارات إذا حافظنا على ثبات صيغته النبيلة المتوارثة؟

لطالما كان في استطاعة أصابعنا أن تشير إلى اسم معيّن حينما نذكُر مرحلة ما، أو تاريخ ما، أو ثورة ما، أو حرب ما، أو رواية ما، أو قصيدة ما، أو حتّى حدث جانبيّ ما. فالذّات تعيشُ منذ القِدم على تلك الماهيّة التّي تشكّل مصدراً للنّور والاعتماد.

فمن أبطال ما بين الرّافدين السّومريين غلغامش، إيتانا، إنمكار، سرجون، ونرام سين، إلى حرب طروادة بالأوديسة ببطليها أخيل وهيكتور، إلى معركة نينوى بأبطالها هرقل وراهزادا، إلى معركة القادسيّة ببطليها سعد بن أبي وقاص ورستم فرخزاد، إلى معركة موهاج ببطليها سليمان القانوني ولويس الثاني، إلى معركة عين جالوت ببطليها سيف الدّين قطز وهولاكو، إلى معركة فيرديناند سنة 1916 وصورة الجنرال الفرنسيّ "فريدينان فيش"، ثمّ معركة بارباروسا ببطلها ديميتري لافرينينكي الذّي نجح في تدمير 52 دبابة ألمانية على الجبهة الشرقية، ومعارك ليبيا وإيطاليا التّي يظهر فيها البطل عمر المختار، وصولا إلى حرب التّحرير الجزائرية، وصورة العربي بن مهيدي، وقبله الأمير عبد القادر، وانتهاءً بالحرب على فلسطين بكل أبطالها.

البطل هنا لأسبابٍ كثيرةٍ هو خيّر وشرّير في الآن ذاته، لأنّه يُحاكم من جهتين. الخير والشرّ لا يمنعُ هالة "البطُولة" من أن تكون موجودة. فما يراه التّاريخ لا يخضعُ للمحاكمة، بل للسّرد والتأريخ. ومن ثمّ صاحبَ الوجود الصّراع، وصاحبَ الصّراع حتميّة "البطل". لقد ملأت ذواتنا بهيمنة ِالأبطال حتّى أصبحُوا جوهرنا وما عُدنا نستطيعُ أن ننفكّ من هاجس تلك الظّلال التّي رافقتنا لحُروب عدّة ومواقف متباينة. فعلى ذكر اسم بطل ما - قد يكون في أقسى الحُدود - يمكن للكثير من الجنُود والرّعايا في الطّرف الآخر البعيد عنه أن يواصلُوا حربهم وكأنّه يرافقهم. يكفي وجوده كماهيّة فرديّة في الوجدان الجماعيّ ليسير كلّ شيء على أكمل وجه. الذّات تحملُ التّاريخ في الوقت الذّي يصبحُ فيه هذا التّاريخ له معنى، ومعنى التّاريخ في أحد أطرافه هو "البطل".

أيديولوجيا البطل تقُود العالم. لذلك حينما يموت أيّ بطل داخل معركة يحدث نوع من تدهور الحماس، تدهور الأيديولوجيا تلك، ويشعر الكثيرون بأنّهم تورطوا وبأن السيرورة التاريخيّة ذاتها توقّفت. فالذّات هنا في حاجة لأيديولوجيتها، لظهور بطل آخر وتستعيدُ ديناميكيّتها وزمنها. إنّها لا تستطيعُ أن تكُون حرّة تماماً. ففي الثّورات كما في الحياة العاديّة، يحتاجُ المتورطون في أيّ صِراع، سواء على الصّعيد العسكري أو الاجتماعي أو النّفسي، إلى بطل يلتفُّون حوله لأجل أن ينقذ الحياة من العدم ويدفعُ بالحماس نحو أوجه.

لقد شكّل هذا الرّمز العامل القويّ لمواصلة تلك الرّغبة في الصّراع لأجل الوصُول إلى الخير ظاهرياً، لكنّ الحقيقة هي الوصُول إلى التّاريخ. إنّها الجبرية التّي تؤمن الذّوات بأنّها قد انتخبت لاهوتيا أو انتخبتها الطّبيعة، فقد كان كرومويل يعتبرُ نفسه أداة في يد العناية الإلهيّة، وكان لينين يرى في نفسهُ أداة تسيّرها الماديّة الجدليّة.

لكن هل ظلّ البطل بطلاً في ظلّ أنطولوجيا البطُولة؟ أم أنّ هذا البطل تدهور أيديولوجياً وأصبح إشكاليّة؟

شاهدنا ونُشاهد اليوم الحرب الدّائرة في لبنان بين طرفين يقود كلّ طرف منهما هالة "البطل"، ومن خلال عنصر المُفاجأة الذي استهلّت بهِ المعركة - عمليات تفجيرات أجهزة النداء "بيجر" والكثير من الأجهزة الإلكترونيّة – يمكننا أن نُعيد تعريفنا للبطل التقليديّ والبطل الذي أنتجته ما بعد الحداثة. لقد تدرّج البطل من سومر وطروادة إلى جنوب لبنان، من غلغامش فأخيل وهيكتور إلى بيجر، البطل القادم من المعارك القديمة والجمهوريّات التي تكلّم عنها الفلاسفة الأقدمون، خاصّة أفلاطون وأرسطو، لا يشبه البطل الذي وُلِد بعد الثّورة الصناعيّة، ولا البطل الذي سيدمّر البطولة كجوهر. إنّ بطل الجمهوريّات المتخيّلة «imagined commnwealth» يتماشى مع التّصور الأنطولوجي لفلاسفته الطبيعيين، التّصور الذي حرّره ميكيافيلي وعملت الحداثة على تمديده بواسطة العلم الطبيعي الذي سيكون مآله السيّطرة على العالم، أو بعبارة طريفة لماكس فيبر "نزع السّحر عن العالم" «Disenchantment».

هذا ما كشفه لنا بطلُ الغرب الجديد أمام بطل الشّرق التقليديّ. ففي السّابق اعتمد البطل على المهارة والشجاعة والنّبل والأسلحة. لقد صاحب البطل السّهام والسّيوف ثم البنادق والدبابات والطائرات والغواصات. كان القائد، مهما تغيّرت وسائل القتال التي استخدمها في بطولته تلك، فالدّبابة البريطانية في معركة السوم أنهتها الدّبابات الفرنسيّة Renault FT وكانت أوّل معركة للدّبابات حدثت في أواخر 1918 عندما تواجهت دبّابّات مارك4 ودبّابّات Medium Mark A Whippet البريطانيّة بدبّابة A7V الألمانية. أمّا بحرياً حيث البوارج تقُود الصّراع، كانت معركة جوتلاند سنة 1916 هي أكبر المعارك البحريّة، لكن الغواصات ظهرت كشبحٍ ونقلت الصراع ومعه البطل إلى الأعماق، أين استخدمَها الألمان وحلفاؤهم لإغراق السّفن الحربية التي بدورها طوّرت أسلحتها المضادّة وعملت على تفجير هذه الغّواصات وإغراقها.

الأمر نفسه جواً، فالبطل في الحرب الإيطاليّة 1911 على العثمانيين وحرب البلقان سنة 1912 ليس نفسه في معركتيّ فردان والسّوم حيث الطّائرات مزوّدة بمدافع ورشّاشات، وأكبر عملية جويّة كانت عندما استخدم الحُلفاء 1481 طائرة أثناء هجُومهم المضّاد في معركة سان ميخائيل بفرنسا سنة 1918. وصولاً إلى إف35 وطائرات الدرون، أين البطل هو القائد والعتاد أيضًا. الجيش كلّه هو تكنولوجيا.

هذا هو تاريخ الكثير من العتاد الحربي الذي ساعد البطل على تحقيق بطُولاته. العتاد ومستخدمه هما "البطل" كجوهر، وبدل الخُيول جاءت القطارات والطّائرات والغوّاصات، وبدل السّهام والسّيوف هنالك رشاشّات ومدافع وصواريخ، وبدل الحروب برا وبحرا وجوا هنالك الحُروب السيبرانيّة، وبدل البطل التقليديّ ثمّة بطل الإنسان الأعلى.

فبالنسبة إلى نيتشه، هناك شيءٌ واحدٌ لا شكّ فيه يتعلّق بالمُستقبل: لقد انتهى الإنسان كما عُرف حتّى اليوم، وما سوف يأتي إمّا الإنسان الأعلى أو الإنسان الأخير، كما يقول شتراوس. وعليه فإنّ البطل أو صيغة البطل عند إنسان اليوم قد انتهت، وما سيرافق بطُولاته القادمة سيكون شأنًا آخر يتماشى مع مُتطلبات الحداثة والعلم الذي ذهب بعيدا في تشكيل الإنسان السُوبرمان، حيث يموت الإله وتتفوّق الاختراعات، تأفل الأخلاق وتبزغُ الشّكوك. ومع تدهور صُورة البطل من كونه إله ثم نبيّ، ثم شاعر، ثم قسيس، ثم كاتب، ثم ملك، ثم فارس، ثم آلة، يحافظ البطل كجوهر على معناه لكنّه يفقد صورته التقليديّة. عليه أن يتورّط في صناعة تاريخ ما بعد تهجين الإنسان وتشويهه، ومن ثمّ العمل على اختراع البطل مرة ثانية في أفقٍ جمالي وقيمي جديد.

ومثلما أكدّ نيتشه أنّه لم يبق سوى إنسان المُستقبل الذي إما أن يكون الإنسان الأخير أو الإنسان الأعلى، فعلى البطل كذلك وللضّرورة أن يلتحق بجوهره الجديد، وإلاّ بقي مجرد إكسسوار ميثولوجيّ.

إنّ الذّات تنظر إلى الأعلى حينما تنظرُ إلى بطلها التقليديّ، وعليها الآن أن تتعلم النّظر إلى الأسفل حينما تفعلُ ذلك. عليها أن تضبطَ شكل البطل بالمُعادلات الأشدّ تعقيدًا وتخرجه من القوالب المفهومة، القوالبُ المجرّبة. تخرجه من الشّعر واللاهوت والأغاني الوطنيّة وتلحقه بالعلم، تخرجُه من شاعريته وتُغرقه في الصّرامة حيث تنتهي الأخلاق، لأنّ عالمًا مليئًا بأدقّ التكنولوجيات يجعلك الخاسر الوجوديّ في كلّ الحُروب، حتّى تلك التي لن تخُوضها.

البطل التقليدي الذي لا يزال عالقًا داخل مفهوم "الفضيلة" في جمهوريات ليست فاضلة مطلقًا، ستدمّره أيديولوجيا البطل التّقنيّ، بطلٌ نعلمُ أنّه وُلِد بعد أن حدثت قطيعة تامّة، وانتهى الاتّصال بين اللاهوت والفلسفة. وُلِد بعد أن انتهت العلاقة بين أثينا والقدس، مثلما لخّصها شتراوس، حيث الإنسان لم يعد يُخلقُ على صُورة إله كما هو متصوّر في الفلسفة اليونانيّة القديمة للسياسة. وبذلك تفتّت ذلك الانسجام بين "طبيعة الإنسان" و"الطبيعة الإلهية" الخارجيّة.

لم يعد ثمّة ذلك الفرد الأخلاقيّ الذي سعى الإنسان لتطويره للأفضل، بل الإنسان الذي شوهه. وعليه الآن إعادة اكتشاف التّاريخ، ومعه إعادة اكتشاف جوهر "البطل" بإزاحة "البطل التقليدي" وإحالته إلى متاحف تاريخ البشريّة. فهذه الموجة يغلبُ عليها القلق والاضطراب وعدم الاطمئنان مع الوجود، على عكس الموجتين الأولى "القطيعة مع الفلسفة السياسية القديمة" والثانية "تغيير المناخ الأخلاقي للغرب" المتصالحتين مع الوجود. وهي موجة، من منظور شتراوس، متشائمة، تقوم على شعور مأساويّ بالوجود، وتجربة رعب ومعاناة، وعليه فإن بطلها سيحمل صفاتها وسيكون انعكاسًا لذلك القلق. لن يكون في حُروبها أبطال بشريّون، بل عقول إلكترونيّة. سيكون أبطالها تكنولوجيين للغاية، "درونز" ألغام داخل أجهزة الكترونية، رجال آليون، طائرات إف34، صواريخ كروز. سيكون البطل هنا متناسقًا مع العلم ويتفوق على البطل التقليديّ المليء بالفضيلة والنور، بطل أخلاقيّ هزمه الإنسان البراغماتيّ الميكيافيليّ في الوقت الذي كان يلاحقُ الرومانتيكيّة الكانطيّة.