"هُواريّة".. ذاتٌ منبوذة تبحث عن الاستحقاق
اهتمَّ الإنسانُ بالاحترام، والشعور بالقبولِ من الآخرين، وبأنّه "ينتمي"، لهذا اخترع لنفسه ألقاباً ومكانةً وأشجارَ عائلةٍ، وسعى طيلة حياته لتحقيقها أو الحفاظ عليها، ثم أوجد لأجل الانتساب إليها معاييره الخاصّة. والإنسان الذي يفقد شعوره بالانتماء يُلقى خارج الوجود، بل يتصرّف على أساس ذلك. ولهذا، حينما يرفضه الآخر، أو يعزّز فيه الإحساس بالنبذ، لا تعود ثمّة أهمية لأخلاقِ السادة، وهذا ما تسلّط عليه الضوء، رواية "هُواريّة" لإنعام بيوض، ونعني هنا بالضبط "النبذ"، وليس فقط داخل العمل الأدبي، بل خارجه أيضًا، ممتدًّا بذلك نحو الواقع. فالشخصيات المنبوذة أدبيًّا، لم يتفهمها (وكما هو متوقّع) الواقع، بل رماها (الشخصيات والرواية معًا) مع المجتمع بعيدًا، وكأنّه يتخلّص من شيءٍ مقزّز.
إنّ الشخصيّة المنبوذة هنا، لا يمكنها إثبات وجودها، لأنّها تعيش الإنكارَ الوجودي، شخصية لا يمكن إنقاذها لأنّ الآخر صاغها باللاوجود، ومن ثمّة لا يمكن أن تنقذَ شيئًا غير موجود من الأساس، أي إنّك تعذّبه على خجلك منه، وأوّل ما تفعله لهذه الشخصيات هو الاعتراف بوجودها، لتستعيدَ ذاتها الوجودية، ومن ثمّة يتمّ محاورتها، و"هُواريّة" في روايتنا هنا، هي المحرومة من حنان أمها المقصيّة من العائلة، عائلتها، عاشت التغريب والتحقير، وتمنّت لو كانت صبيًّا، وحينما عجزت، سمّتها على ضوء أخيها الهواري، شخصيّة مرفوضة تماماً منذ ولادتها، وعلى ضوءِ هذه الشخصية سيسيل العديد من كفوفهم الموضوعة داخل كفها، وتنبعثُ من أنفسهم قذارة العالم ورقتها وأسفها.
تبدأ الرواية رمزياً بالجملة الشهيرة التي يتنصل بها الكلّ من الكلّ، كأنّهم يغسلون أقلامهم ممّا سيكتبونه لاحقاً. الكاتب أيضًا، يتخلّص منهم قبل أن يتركهم بين الأوراق، عبر القول "إنّ أي تشابه في الأسماء والأماكن والأحداث المذكورة في هذه الرواية ليس سوى محض مصادفة".
لا يُمكن للغة الجيّدة الخالية من الفكرة أن تمضي قدمًا، كما لا يمكن للفكرة الجيّدة الخالية من لغةٍ تبلورها أن تُبقي بنا إلى جوارها
تدورُ الأحداث في حي لكميلا بمدينة وهران الجزائرية، في الحقبة التي شهدتْ فيها البلاد تزعزعًا خطيرًا في الأمن، خلال مرحلة العشرية السوداء، حيث ساد الفساد في كلّ مكان، وانفلتت الشرور من القصور لتستقرَّ بالأحياء الشعبية، ما جعل الشخصيات تتشبّع بالخوف والكره واليأس، والتمادي، والتطرّف في كلّ شيء، اختفت الوسطيّة، وانهارتْ (كما في كلّ استبداد) كلّ الأطر الأخلاقية، وما أحداث العمل الروائي إلا صنع تلك الهوّة السحيقة التي وقف عليها جيلٌ كاملٌ، وقد يرى البعض أنّ النصَّ جريء، وآخرون يرونه منحطًّا، لكنه يبقى العمل الذي كان ذاته، الكاتبة التي اعتبرتْ أنّه نصٌّ مسكوتٌ عنه، فقامت بتوجيه الأنظار نحو الأبراج المسقوفة بالمثالية، المجتمع المُحصّن بالنفاق، الزوج المُتاجر بالأعراض والدين، المُنخرط في صفِّ الأمن والناشط داخل جماعةٍ إرهابية، التجار الذين يضاعفون أموالهم في الأزمات، المثقفين العالقين بين الوسائد، المناضلين اليساريين الملتحفين بخطاباتٍ إنشائية، الحياة الصوفية التي يُعاد إحياؤها لأغراضٍ سياسية، اللِّحى المصنوعة من جزّ الرؤوس، كلّ هذا العنف الرمزي والفعليّ، بقي ككدمةٍ زرقاء على ذاكرةِ البلاد، الاستبداد الذي يفسد أخلاق الشعوب، فيجعل من متدينيهم منافقين، ومن مثقفيهم جبناء ومتسلقين، ومن حماة أمنهم قتلة وأذلاء ومرتشين، نعم إنّه الاستبداد الذي يرفع في أيّ بلدٍ من قيمة الخونة والمارقين، ولا مكان فيه للمخلصين الصادقين. فهل تحتمل هذه الأجواء والشخوص المنبوذة والمطرودة من الفضيلة نفاقَ اللغة؟
دائمًا، ما نُرجع بعض الفضل إلى اللغة التي تُستخدم في أيّ عملٍ أدبي، لأن تأخذ الكتاب أو تتركه جانبًا، فلا يُمكن للغة الجيّدة الخالية من الفكرة أن تمضي قدمًا، كما لا يمكن للفكرة الجيّدة الخالية من لغةٍ تبلورها أن تُبقي بنا إلى جوارها. وفي عمل "هُواريّة" كانت اللّغة مباشرة، بحكاياتها المألوفة (مع بعض التحفظ على الهفوات التي طرأت داخلها)، وعلى بساطتها هذه، وهروبها من التكلّف في تشكيل الجمل أو تشكيل الشخصيات، أو تشكيل السرد، استطاعتْ أن تحرّر الأحداث من الخجل الاجتماعي، أو الخجل الأدبيّ، أو عقدة الصمت. نحن أمام روايةٍ، كُتبت انطلاقًا من التفاصيل اليومية لأشخاص مرفوضين، يطرحون ذواتهم للوجود، متحدّين بذلك كلّ من عاشوا يشطبون وجودهم، سواء واقعًا أو خيالًا.
ثمّة أدوار مألوفة لا تحمل ابتكارًا في صياغتها، ليكتشفَ القارئ الفرق القائم دائمًا بين الواقع، مثلما هو، وبين الواقع مثلما يعيش أو يُعاش في الداخل، فالفيلسوف الفرنسي، جيل دولوز، والذي يقول إنّ كلَّ روايةٍ هي سيرة، سيرة طفولة العالم، وليست سيرة طفولة الكاتب أو القارئ، يعتبر الإنسان النكرة غير المعروف على المستوى العام هو ما يجب أن يُكتب عنه، أمّا الكاتب فمهمته هي الكتابة نيابةً عن الآخر وليس الإيغو الشّخصي، مع أنّني أعارضه في أمرٍ كهذا، لأنّه يتجاهل مسألة في غايةِ البساطة، فأيُّ كاتبٍ هو نكرة في ما يخص القارئ، وهذا ما تبنّته الكاتبة إنعام بيوض، من أفكار جيل دولوز، واستنطقت بلغتها التي لا نفوّت رقّتها في التوصيف، والأسف والحزن في تشكيلِ المصائر، ويسيل منها الغضب كلهجةٍ وهرانيّة، إنّهم نكرات وهران وهم يمثلون نكرات المجتمع الجزائري جميعًا، وأيضًا النكرات في أيّ مكان في العالم، فالشخصيات حينما تغضب، تكتبُ غضبها بلهجتها، وربّما تكون الكاتبة قد ترجمت هذا بكلّ مصداقيّة، فاللغة عاجزة أمام الحقيقة في مشهدٍ ما، سيعجبنا الغضب بالشكل الذي لا تريده الشخصيّة ذاتها، لكن هل أعجبنا الغضب أو لغة الغضب؟
الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها، يلاحقها البوليس بمسدساته والأرستقراطيون باشمئزازهم واحتقارهم
الغضب لا يحتاج إلى الإعجاب هنا بدلًا من أن يكون حقيقيًّا، وحتى لا يكون كذلك ألحقته الكاتبة باللهجة الوهرانيّة، وقد أصابت حينما اختارت ذلك، فالمتلقي شعرَ بغضبِ هوّاري للحدّ الذي أغضبت كلماته تلك المجتمع بأسره، لا يمكن لشخصيّة هادية وهواري...
على سبيل المثال، أن يمتلكوا لغةً محترمة، إن ذلك نشاز سرديّ يستطيع أيّ قارئ الشعور به، هم المنبوذون الذين ألقت بهم الظروف داخل حي لكميل، حيث يعمُّ الفقر والخيانة والمخدرات والمُومسات والجهل، ويطلق على أزقته "كلاه بوبي"، طريق البايرات"، "زنقة الحلوف"، ويُعلّق على باب ماخوره "حمام الصالحين".. لقد انعكس انعدام الأمن في العشرية السوداء على الأفراد بأبشع الصور، فالشعوب المقهورة تسوء أخلاقها، يلاحقها البوليس بمسدساته والأرستقراطيون باشمئزازهم واحتقارهم، والمتشدّدون بسكاكينهم، هذا ما يفسّر اختيار الكاتبة لتلك الجمل النابية تحديداً، إنّها تمهد لك عبر هذه الحيوات المنبوذة والأفق المنغلق، والبيوت المكبوتة والعنف المتسيّد والهشاشة المنفرطة، حتى إذا ما انزلق لسان الشخصيّة تتفهّم مدى ذوبان اللباقة خلف لسانٍ حاد.
تائهين ومُعذّبين، لا تكاد تلمح أرواحهم المهزومة، أو يُسمع عن أسمائهم، وحين يختفون، يختفون إلى الأبد
اعتمدت الكاتبة إنعام بيوض في عملها على سبر نفسيّة المهمشين، المرفوضين أولئك الذين ينفيهم المجتمع نحو الموتِ الرمزيّ، الباحثون عن القيمة حتى لو كلّفهم ذلك التحوّل إلى وحوش، شخصيات منهكة من أول يوم تُولد فيه في عالم ينهار تحت أقدام الجزارين وأفرشة الحرير، الحب الذي لا يكتمل، الدراسة التي لا تكتمل، الأخ الذي لا يعود، الزوج الذي لا تستطيع رفضه، المثقف الذي لا تستطيع أن تصبحه، التقيّ الذي لا تستطيع أن تغسله، الابن الذي لا يستطيع أن يكون أملاً.
شخصيات مطاردة تارة ومطرودة تارة أخرى، إنّها تبحث عن القيمة في أيّ مكان، اعتراف الآخر بأهميتها في الوجود على علّتها، لذلك ادّعت "هجيرة" أنّها ذهبت إلى الحج، حتى تحصل على الاحترام، الطبيب الهاشمي الذي يطيل في سرد التاريخ أمام عشيقته "هادية" المنبهرة بتلك المعلومات "ترضي غروره" وتشعره بالأهميّة، "هواري" الذي أطال لحيته ليكتسبَ مركزاً.
أمّا "هواريّة" وهي الشخصية التي اختارت الكاتبة أن تكون عنواناً لعملها، لا لأنها أهم ما في العمل، فكلّ ما وُجِدَ فيه كان على أهميّة بالقدر ذاته، فالمآسي كلّها بالقدر ذاته مهما اختلف وقعها، بل لأنّ كلّ الشخصيات الأخرى ستنتهي عندها، لا يربطهم فقط حرف الهاء الذي يحملونه في بداية أسمائهم، بل مصائرهم أيضاً في حي لكميل الذي يُعَدّ مسرحاً للأحداث، وربّما سيلفت انتباهنا في البداية هذا الاختيار الأبجديّ للأسماء في العمل الروائيّ، لكن سرعان ما سيتبدّد ذلك حالما تنتهي هُواريّة إلى عرّافة، صوفية، روحانيّة.
وهنا، نتذكر فكرة حسن الصبّاح مع أصدقائه، إنّه يأخذ أياديهم، ثم يروي لهم ما سيحدث في حياتهم، تتقاطع هنا الفكرة، فهُواريّة تقوم بذلك أيضاً، صحيح أنّ كلّ العرافات يقرأن الكفوف لكن ليست كلّ العرافات روحانيات، فحرف الهاء هو من الحروف النورانية عند الروحانيين، إنّه أضعف الحروف، حرف خفيف ورائع، ولكن ننتبه عند النطق به أنه حرف خفي وبعيد المخرج، إنّ الحرف يشبه شخصياته: هوارية، هناء، هشام، الهاشمي، هبة، هاجر، هاني، هوبل، هالة، هبري ...إلخ، وحتى نستمع إليهم وجب أن يضعوا كفوفهم داخل كف هُواريّة، شخصيات بلا أصوات، بل مستنطقة من خلال قارئة كفّ، إنّنا أمام تائهين ومُعذّبين، لا تكاد تلمح أرواحهم المهزومة، أو يُسمع عن أسمائهم، وحين يختفون، يختفون إلى الأبد، حتى على الألسن، فما لا نجلبه إلى نور وعينا يظهر في حياتنا مصيراً يحسب عالم النفس كارل يونغ، هنالك سيطرة لاشعورية يمارسها "الظلّ" في السلوكات التدميرية الذاتيّة التي تُواجهها الكثير من الشخصيات، ولا تستطيع السيطرة عليه رغم أنّهم على درايةٍ تامّة أنّهم سيكونون أفضل في تجنّب تلك الممارسات.
هؤلاء المدمنون، المُومسات، القتلة، تجار البشر، تجار الفضيلة، الرفقاء الأبطال، كلّهم مدفوعون بظلالهم، والتي تمثّل الحرب الداخليّة الموجودة بداخلهم، وإذا ما تحدّثنا عن شخصياتٍ كهذه، فالداعي لن يكون الحكي، ولا الأخلاق، ولا البطولة... والأهم في الرواية الاجتماعيّة كان دائماً يتمثل في تقديم الخلل لمساعدة الشخصيات الغائبة داخل العالم المنبوذ، وهذا هو أقلّ استحقاق.