اتحاد علماء المسلمين... جعجعة بلا طحين
يقف الخطيبُ على المنبر، يسير وسط الناس، يُرفع فوق الأكتاف، يدعو بلسان حاله وعلمه وعمله، وطريقة خطابه، في محرابه أو أمام بابه، إلى الجهاد في بقعة يُظلم فيها المسلمون، وتُنتهك أعراضهم، وتُهدم مساجدهم، وتُرمّل نساؤهم، ويُيتَّم أطفالهم؛ لأنّ ذلك دوره، في الحث والدعوة والحض والتحريض على "الجهاد" بمعانيه الواسعة والمباشرة، لأنّ الداعية داعية، ورجل دين، لا سياسيّ يتبنى خطابات دبلوماسية ناعمة، والفتوى لديه أسهل بكثير من مراوغات رجال الأروقة والمكاتب المغلقة؛ ذلك عدو يحتل أرضًا ويقتل شعبًا، وواجبٌ دفعه وصدّه وردّه، دون اعتبار لأمرٍ مفروض، ولا لواقعٍ مشروط ومحدود، وإنّما هو يتبنّى الفكرة، ويدعو لابتكار الطريقة، وليأخذ كلٌّ على عاتقه تنفيذ الفتوى، دون حاجة إلى تنسيق أمنيّ، ولا معاينة الأضرار!
ذلك المنهج الذي كان على يد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من البداية ثم أصحابه، والتابعون لهديه في مختلف العصور والأزمان، على طريق واحدة، بيّنة، واضحة، وفيها سُجن ابن حنبل وعُذّب، وبها عانى العز بن عبد السلام وطُرد ونفي وفرّ بدينه، وفيها ناضل العلماءُ في مقدّمات الجيوش، يقاومون الاحتلال أو العدوان أو الحكّام الظالمين، بنفوسهم وأموالهم وأهليهم، حتى يلقوا الله بكلمة حق قالوها، وبفتوى صدق تجرؤوا عليها بحقها وعدلها، دون ريبة، ولا اهتزاز، ولا انتظار تنسيق أمنيّ، ولا خضوع بين أيدي السلطات، ومخاوف التصادم مع الحكام والسلاطين؛ وذلك فقه الواقع، لا فقه غيره!
130 يومًا، أكثر من ثلث عام مضى على بدء مذبحة تُسفك فيها الدماء دون وجه حق، وتُمزّق فيها أشلاء الأبرياء في غزّة، ويُقطعون إربًا إربًا، ولم يُعقد إلا مؤتمر يتيم ربّما، أو أدنى من مؤتمر، وكلمات وتصريحات للاستهلاك الإعلامي على مواقع التواصل، تخبر الجمهور بتحرّك الاتحاد العالميّ لنصرة غزّة؛ الله أكبر، كيف يا سيّدنا؟ تتجهون في قافلة حقيقية؟ تحاولون التحرّك دون حدود؟ أو تحاولون حتى إحراج السلطات التي تمنعكم؟ تذهبون إلى رفح وتحملون أكفانكم وتصرّون على العبور؟ تؤدون ما عليكم بحكم المسؤولية والتزكية؟ لا؛ تلك مخاطرات لا تليق بذوي العمم، ضعيفي الهمم، ولا تليق بالأجساد التي تعييها أي نومةٍ في سبيل الله، دون النومة في فنادق العواصم العربية المرفهة!
إنّ تعويل اتحاد ينصّب نفسه ممثلًا عن ملياري مسلم، على تنسيق السلطات المصرية له، حتى يأخذ لَقطة يعبر بها إلى غزّة، هو محض هراء للاستهلاك الإعلاميّ
أنا لستُ شيخًا، ولا معمّمًا، ولا رجل دين، وإنّما مجرّد مسلم، يعرف من الدين ما لا يسع المسلم جهله، ومعلومه بالضرورة، ولا أشكّك بالنوايا ولا أطعن بالنفوس ولا أشق عن القلوب، لكني أدرك أنّ تعويل اتحاد ينصّب نفسه ممثلًا عن ملياري مسلم، على تنسيق السلطات المصرية له، حتى يأخذ لَقطة يعبر بها إلى غزّة، هو محض هراء "للاستهلاك الإعلاميّ"، مع جائزة تشريفية للأخ وائل الدحدوح، وبكاء الشيخ وهو يسلّمه إياها لا أكثر، وانتهت القصة!
ثم يأتي فضيلته، بعد دخولنا الشهر الخامس من الحرب على غزّة، ليخبرنا بأنه تعرّض لتهديدٍ إسرائيلي بالاغتيال، لصنع بطولات وهمية وفقاعات تأخذ مساحةً لديه أكبر من مساحة غزّة، واحتفاءً أضخم من اللازم، وما التهديد؟ هو تعليق عاديّ، وأقل من العادي، تعرّض له كلٌّ منا من اللجان الإسرائيلية، والذباب الإلكترونيّ، يقول له لو جئت غزّة سندفنك فيها! كيف ذلك؟ الشيخ معرّض للاغتيال! كأنّ له دورًا في تلك المعركة، وكأنّه يحاول "حَلْبَ" المشاعر ليخلص نفسه من عقدة الشعور بالذنب والتقصير تجاه هؤلاء الذين كانوا ينتظرون منه دورًا "محترمًا" أكبر؛ كما عرفناه في حروب سابقة، كان يفتي فيها ويحضّ ويتولى جبهة التحشيد!
130 يومًا وما زال الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين "ينسّق" لمساعدة غزّة، دون أن يقدّم مبادرة واحدة، ولا فتوى متماسكة، ولا قرارًا ولا نداءً يعني لغزّة أي شيء، أو يحفظ ماء وجوههم في تلك المعركة. وإذا كنّا نهاجم الحكّام، والحكومات، والهيئات، والمؤسسات، لدورهم الذي خذل غزّة وتواطأ مع عدوها، فلا يمكننا تجاهل "الجُبن" رفيع المستوى، الذي ابتكره لنا اتحاد علماء المسلمين هذه المرة؛ حتى لا يُستثنى من ذلك العار إلا من أدى بشرفٍ ما عليه بحق، كما يحب الله ويرضى، لا كما تسمح به "التنسيقات" العابرة للحدود، المثبّطة للجهود، والقاتلة بطلقاتٍ إضافية ذلك الشعب الوحيد تمامًا.